مقالات

أمير الشعر الحميني عبر كل العصور

25/03/2024, 10:41:55

"لا توجد كلمات غنائية أصيلة بدون ذرة من الجنون الداخلي".

يطِلُ عبدالهادي السودي من بين هذه الكلمات، لكأنها كتبت فيه، وعن سيرته، وتفردهُ شاعراً، وعاشقاً، وصوفياً، وعلامة فارقة لِعصرهِ، وشاغلاً للأجيال من بعده.

لا قيمة للزمن عندما تكون الحرية الداخلية هي المقياس.

وكأن إميل سيوران، الذي عُرف الجنون الداخلي بطريقته، قالها بعد قراءة حُمينيات الشاعر الفذ والصوفي العارف بالله عبدالهادي السودي، الذي عاش قبله بخمسة قرون.

لكي يُبدِع الشاعر يحتاج إلى الذهاب إلى الأقاصي، إلى حافة الأشياء وإطلالاتها باتجاه المجهول، الهاوية، الأبدية، والوجود من حوله.

لا أصالة تتحقق للشعر دون انخطاف الشاعر المتفرد بهاجسه وإحساسه المكثف بالذات والحياة.

كتب عبدالهادي السودي قصائده في حالة كهذه. بل أكثر من ذلك، لم يكن يكتب قصائده إلا وهو في حالة انجذاب.

في كتابه "الشعر الحميني في اليمن"، نقرأ ما وجدهُ الباحث الأستاذ جعفر الظفاري، عن عبدالهادي السودي:

"لم يكن السودي ممن يؤمنون بأن الشعر مجرد تزيين أو تحسين. إذ لم يكن ينظُم إلا عند ما يصيبه الوجد، ويذهب محبوه وأشياعه إلى القول بأنه كان لا يكتُب إلا وهو مجذوب، ويخط ما يعانيه، في حالة الوجد هذه، على الجدران مما يقع في يده من فحم، أو غيره من مراتن الكتابة، حتى إذا ما اختفى الوجد، أو قلّت حدتهُ وانسدل الحجاب من جديد، راح يمسح ما خطه على الجدران. فكان صنيعه هذا دافعاً لمريديه على الإسراع في نقل حمينياته المرسومة على الجدران في أوراق خاصة".

الكتابة الإبداعية تتخلق في وجدان يذهب حتى التشوش الكامل للحواس، إذا اقتضت التجربة هذه المغامرة.

يجعلك عبدالهادي السودي تراه أينما اتجهت أفكارك، وما يشغل ذهنك، تراه في صفحات فلاسفة وروائيين وشعراء وحكماء، وكأن كل جملة فارقة تشير إليه.

"عندما يكون الإنسان ممسوساً بالروح، يُصبح في أقصى حالات الحيوية، لا يأبه بالخلود ولا يعرف أي شيء عن الموت". إشارة كهذه من هنري ميللر تعيدني إلى العارف بالله عبدالهادي السودي. 

شاعر استثنائي مثله لا يُعَّرَف بجملة تقليدية مغلقة. هو ابن هذا الزمان، بكل تطوراته المعرفية، وإن عاش قبله بسبعمئة عام.

چيل دولوز، الفيلسوف الفرنسي الشهير، الذي أوغل في الفلسفة حد الانتحار، يكتب مُعرفاً "الأصيلين"، كأن السودي كان في ذهنه لحظتها:

"إن الأصيلين هم كائنات الطبيعة الأولى، ولكنهم ليسوا مفصولين عن العالم، أو عن الطبيعة الثانوية، وعليها يمارسون أثرهم: يكشفون عن فراغها، ونقص قوانينها، وعن تفاهة مخلوقاتها المتميزة أو ذات الخصوصية". 

الشاعر كما يراه فتى الشعر المدلل في القرن العشرين، آرثر رامبو، هو من يجعل من نفسه صاحب رؤية من خلال فوضى طويلة لا حدود لها، ومنهجَة لجميع الحواس.

بدوره، يبدو كأنه يحيلنا إلى عبدالهادي السودي:

"في كل أشكال الحب، من المعاناة، الجنون، يبحث عن نفسه، يرهق في نفسه كل السموم، ويحافظ على خواصها. عذاب لا يوصف، حيث سيحتاج إلى أعظم الإيمان، قوة بشرية خارقة؛ لأنه ينال المجهول، كأن المعنى هنا يتحد بالوجود؛ لأنه زرع روحه، غنى بالفعل، أكثر من أي شخص! ينال المجهول، يتحد بالوجود".

ـ المعنى الجامع للشعر والتصوف

 هام عبدالهادي السودي، وعرف الجوع والتشرد، استمتع وتألم، عاش الحياة، واصطلى بنيرانها، وذاق حلاوتها، اتقدت روحه في تجاربها، ونضج إحساسه كشاعر فذ في خضم الحياة وتقلباتها. الحياة التي لامسته، شرّدته وأمتعته؛ واستوى عارفاً بالله والوجود، وأبعاده من خلالها، عاش الحياة وتأملها من داخلها، لا كما يفعل آخرون يقاربونها عن بُعد، ويتأملونها من خارجها في استيهاماتهم المفارقة لمعناها. 

أمضى عبدالهادي السودي حياتهُ منقاداً لفكرة تلبّسته وسيطرت عليه، كرّس نفسهُ باحثاً عن المعنى، لم ينصَبْ اهتمامه على اكتساب المتعة أو تجنب الألم، بل بالأحرى أن يرى معنى لحياته، امتلك القدرة على امتحان موهبته الشجاعة على مواجهة الحياة وجها لوجه، الاستعداد للمغامرة في الحب، الشعر، التصوف، التخلي، الترحال، الهيام، الاندماج، العُزلة.

محذور واحد، تشعر أنه كان مقياس الوجهة التي يمضي فيها: التأكد من أن ما يختاره ويقدم عليه سيكون له معنى.

 الانقياد لنداء داخلي نحو معنى غامض وواسع بحجم الكون، هو مفتاح كل تنويعاته الشخصية: الشاعر الحميني الرائد، والعاشق الهائم في الوديان، والصوفي العارف بالله والوجود، تراها كلها كظلال خلف قصائده، ابتهالاته، وما خطته أناملهُ.

ملمح من حياة عبدالهادي السودي رسمه الباحث الفنان جعفر الظفاري، في كتابه عن الشعر الحميني في اليمن: 

« كان عبدالهادي السودي شديد الأدمة، مقرون الحاجبين، أدعج العينين، مفرط الطول، مع ظلع يسير، وقد علق قلبه (كما علق قبله قلب ابن علوان) بهيفاء يهودية، إن تكلمت تغنت، وإن قامت تثنت، تقبل بأربع، وتدبر بثمانٍ، فتزوجها".

وبقي يهيم على وجهه في البراري والقفار، تأنس به الوحوش، حتى ألقى عصا الترحال في تعز، التي اتخذها مستقراً دائماً له، عائشاً في زهد وتقشف لا يعنيه من أمور الدنيا إلا ما يقيم أوده، ملزماً نفسه السلوك في أودية الحقيقة حيث وجد فى «المنتهى» ضالته، فانكشفت له من حقائق الوجود ما لم يُكشف لغيره من متصوفي اليمن السابقين «عدا الإمام الجبرتي».

"أمضى السودي حياة طويلة وقلقة في تعز، معرضاً عما يشد الناس من أمور الدنيا، ومُلِّجاً في بحر الحقيقة المطلقة، يعبُر عن وجده ومكاشفاته بما يشبه أقوال الذاهبين إلى الحلول أحياناً، والذاهبين إلى الفناء أحياناً أخرى".

الهُيام والتقشف والزهد والمعاناة، هذه وحدها ليست كافية لإنضاج الشاعر، والوصول بالمتأمل إلى ما وراء الحُجُبْ. إذا كانت المعاناة وحدها تُعلِّم، فسيكون العالم كله حكماء؛ لأن الجميع يعاني. يجب أن يضاف إلى المعاناة؛ الشغف بالمعرفة، الفهم، ذكاء الروح، الصبر، الحُب، والقدرة على تحويل المكابدة والندوب إلى إشراقات في القلب، وفكر في العقل، وكتابة على الورق.

ولعل عبدالهادي السودي صاغ حياته لتكون معلماً في هذا الطريق؛ ومثالاً للحياة، وقد تحولت إلى مثال يُحتذى في التصوف، واتجاه يُقتفى في الشعر الغنائي وحمينياته.

-أكثر النُظام العرب، والضارب بسهم وافر في الموشح

يصف الباحث الأستاذ جعفر الطفاري الشاعر والعارف بالله عبدالهادي السودي بأنه من أبرز الشعراء الحمينيين في جنوب الجزيرة، بل ومن أكثر النُظام العرب ممن ضرب بسهم وافر في الموشح، ويذهب أكثر من ذلك بأن أطلق عليه لقب: أمير الشعر الحميني في المنطقة اليمنية، وعبر جميع عصور التاريخ اليمني وأدواره:

 "إن حمينيات السودي مؤثرة في مبناها ومعناها، تهز الخلي بملوان من النغم يقصر القلم عن وصفه، وتحرك من سواكن النفس ما ليس في المستطاع التعبير عن مثاراته ووقعه، وتنتقل بالمريد عند السماع إلى أجواء لا يتحسس كنهها إلا من عانى مخاضات السلوك بعد المجاهدة والارتياض.

وليس من غلو، أو إغراق، إذا ما قلنا إنه لم يكن في مستطاع أي وشاح يمني، حتى اليوم، أن ينسج على منوالها، أو يصاقب مشارف لطافة معانيها ورِقة مبانيها وعذوبة تأثيراتها: فمن حروفها تتضوع نفحات الرحمن، ومن مقاطعها يتألق وهج إخلاص التجربة الصوفية فتلمس قلب السالك والمريد، وتسري به إلى حيث لم يصف صب مغلول، أو يعبر عنه هائم مكبول". 

إن العواطف المتباينة والمتمحورة حول معاناة العاشق المستهام، من حيث مناجاته من لا يسمع ولا يجيب، وحنينه إلى مطارح المحبوب ومسارحه عندما تهب أفواج الصبا والنسيم، أو عندما يغرد شارق مفتاح على غصن من الفنن، أو عندما تمرح سوانح الظباء على ملاعب الوهاد، أو عندما تتهادى العيس بالركب على ترجيعات الحداة، أو تشري البوارق في دجى الليل البهيم، أو عندما تنقشع الحجب والأستار، ويجود المحبوب بالوصال، ويسف السالك معه كأس المحبة والوداد، أو عندما تتوهج الحقيقة من قاع الذات، أو تتجلى في مجسد من مجسدات الطبيعة -

كل هذه العواطف ومتجاذباتها عاناهــا السـودي، وعبّر عن مخاضاته باقتدار الصانع، الذي يعرف كيف يطوع الكلمة نسجاً وحبكا".

 لا أحد يضاهي عبدالهادي السودي في الشعر الحميني. يقارنه جعفر الظفاري بمن سبقه ومن لحقه من رموز الشعر الحميني وأعلامه، ويخلص إلى تفوقه عليهم:

 "لقد ظهر في مرسح الشعر الحميني عشرات من النظام؛ ولكن لم يتميز منهم إلا القليلون ممن كانوا مخلصين في معاناة التجربة الشعورية، ومقتدرين على بث حرارتها بين أحناء الحروف والكلمات بفضل امتلاكهم ناصية اللغة، ومعرفتهم كنـه جـوهـر الشعر الحميني (بإيقاعاته وتوقيعاته النغمية)، مع ما وهبـوا مــن حــظ العقل ورقــة النفس وجيشان الضمير، وقدرة فذة على تقييد المشاعر بالنغم الموحي وأحياناً بالصورة الدالة: المزاح - العلوي  - محمد بن عبد الله شرف الدين - حيدر آغــا - العنسي - الحداد (عبدالله بن علوي ) - الحسين بن علي - الجحافي – عبد الرحمن الأنسي وابنه أحمد. لكن السودي هو السماك الرامح والوشاح الذي لا يجاري، وأمير الشعر الحميني في المنطقة اليمنية وعبر جميع عصور التاريخ اليمني وأدواره".

-سفائن السودي ومؤلفاته 

أغلب شعراء الحميني لم يجمعوا أعمالهم في مخطوطات أثناء حياتهم. وقد قام مريدوهم، والمهتمون بالشعر الحميني بجمعها بعد رحيلهم، ووضعها في إضمامات تُسمى "سفُن"، أو "سفائن"،"السُفن" هي ما يجمعه المريدون بعد وفاة الشاعر، ويضمنونها قصائده وأشعاره، وبعضها تضم حمينيات متفرقة من عدة شعراء، وقد تضم إليها قصائد مجهولة لا يعرف كاتبها.

توزع شعر عبدالهادي السودي على غير ترتيب في الإضمامات التي جمعها مُريدوه، وتباين كمه ونوعه من إضمامة إلى أخرى، وتحدر إلينا بعضه في دواوين تحمل تسميات مختلفة، بينما انبث منه سفن ANTHOLOGIES متفرقة متداولة بين الناس، يروج منه ما يروج في الزوايا والربط، ويستفيض ما اتصل به من شروح وأخبار في أندية الغناء ومجالس الطرب.

ويبدو أن أكثر من فرد من مريدي السودي وأشياعه قد تولى تصنيف ديوان الهادي، فجمع ما استطاع جمعه من حمينيات تحت وَسم ارتآه ملائماً.

 يشير الظفاري إلى التسميات الآتية فيما اطلع عليه من دواوين السودي:

1 - ديوان عبد الهادي السودي

2 - كتاب خليل الأفراح وراحة الأرواح ومذهب الأتراح 54.

3 - ديوان أبو عبد الله محمد بن علي بن أحمد بن إبراهيم بن محمد السودي.

4-نسمات السحر ونفحات الزهر،

معلقاً بقوله: "ومهما افترقت هذه الإضمامات النظمية من حيث ترتيبها وعدد الحمينيات المضمونة فيها، فإن الشعر الحميني للسودي يظهر ما قلناه في المدخل العام لهذه الدراسة: إنه موشح ملحون يستثمر فيه الوقف لسبب مستبان؛ وأن أغلب الحمينيات قد أفرغت في أسلوب المبيت المسمط (وخاصة النمط الثاني). 

بعد الظفاري جاء الأستاذ عبدالعزيز سلطان المنصوب، ليثري المكتبة اليمنية بتحقيقه لديواني الشاعر عبدالهادي السودي وكتاباته النثرية، وتحقيق المخطوطات التي حصل عليها أو اطلع عليها، وصدر ذلك الكتاب بعنوان:

"عارف بالله عبد الهادي السودي: شعره - رسائله - مناقبه".

تضمن مؤلفاته في الأدب وكتاباته الشعرية والنثرية والصوفية ومناقبه وسيرته مع تحقيق ديواني "الشيخ بلبل الأفراح ونسيمات الحر ونفحات الزهر"، ثم رسائله ومكاتباته، مع مقدمة المحقق في مجلد من 500 صفحة. وبعد ما يقرب من ثلاثة عقود على إصداره، لا توجد منه نسخة واحدة في مكتبات أمة تكاد أن تفقد ذاكرتها.

 في نهاية ترحال كهذا الذي قام به هذا المقال في عالم عبدالهادي السودي، يقفز هذا السؤال:

لماذا يبدو عبدالهادي السودي عالياً، عالياً تماماً إلى حد لا يصل إليه "المتصوف" اليوم، ولا يقترب منه "الشاعر الغنائي" في زمن يقال عنه عصر التقدم المذهل والمعلوماتية والإنترنت؟

ربما فقد الشاعر "رسالته"، وطُبع من "المتصوف" نسخاً كثيرة، ولكن لا يوجد بينها نسخة واحدة تشبههُ، وتعبّر عن ذاتهُ.

لنترك هنري ميللر؛ يجيبنا على السؤال،  بكلماته:

"كانت الدعوة العليا أن تكون شاعراً، أما اليوم فهي أكثر الدعوات عقماً؛ ليس هذا لأن العالم ممتنع عن توسل الشاعر، ولكن لأن الشاعر نفسه لم يعد يعتقد برسالته الإلهية".

مقالات

أبو الروتي (3)

(لحظة انطلقت بنا السيارة شعرت بأنّي كبرتُ، ولم أعد طفلا) فيما رحت أتقدّم باتجاه بيت جدي علي إسماعيل، تذكّرت كلام جدتي، وهي تودّعني عند مشارف القرية، وتقول لي:

مقالات

المساندة لكيان الاحتلال والأكفان لفلسطين!

منذ البدء؛ اختارت الكثير من الأنظمة العربية توزيع الأكفان في غزة. كان ذلك يختصر كل شيء: نتنياهو مطلق اليد، يتولى ذبح الفلسطينيين، بينما ستحرص هذه الأنظمة على أن يكون تكفين الضحايا عربياً خالصاً!

نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) خاصة بنا. بمواصلة تصفحك لموقعنا فإنك توافق على استخدام ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) وعلى سياسة الخصوصية.