مقالات

"تحضير" الهويات بالألوان

28/10/2020, 18:47:17

أستخدمت الألوان عبر التاريخ كرموز لهويات دينية وسياسية وفلسفية، مكمّلة لمنظومات رمزية للهويات، تشمل: إحياء المناسبات الوطنية والدينية، الطقوس، الرايات، الشعارات، الأناشيد، وكل ما يمثل ترميزاً لهوية سياسية، حزبية، مذهبية، دينية، وطنية. 

صنعاء اليوم خضراء في احتفالات "إحياء مولد الرسول". 

أينما ولّيت وجهك تشاهد الأخضر، وما الأخضر سوى رمزية لونيّة لهوية عُقدية وثقافية وسياسية تُصبغْ المدينة بلونها الواحد، يراد لها أن تعكسها في لون واحد يمثل رمزية لونية لهذه الثقافة، ويكوّن سمتها كمدينة. 

اللون الأخضر استخدم في أزمنة مختلفة، باعتباره لوناً رمزياً للإسلام، ومن قبل جماعات دينية ومذهبية مختلفة سنيّة وشيعية. 

التنظيم الدولي للإخوان المسلمين رايتهم اللون الأخضر يتوسطها سيفان، وحركة حماس رايتها خضراء، الجامعة العربية رايتها خضراء، أيضاً.

وفي عهد السلطان عبدالحميد الثاني، تمّ دهنُ قبة المسجد النبوي باللون الأخضر، وصارت منذ ذلك الحين علامة مميّزة في سماء المدينة المنوّرة.

في العصر الحديث، استخدم اللون الأخضر كرمز لوني ديني ووطني للمملكة السعودية ، إذ يشكّل لون علمها ويستخدم في الفعاليات والمناسبات وألوان المنتخبات الرياضية وفِي الفضاء العام ككل. 

معمر القذافي استخدم اللون الأخضر شعاراً للجماهيرية الليبية، والكتاب الأخضر ، "نظريته" في الحكم، وما تبعه وارتبط به من ترميزات وشعارات ورايات ومطبوعات ، مزجت رؤيته ل "الجماهيرية" وأشكالها السياسية الداخلية وتمظهراتها كلها باللون الأخضر كرمز معبر عنها. 

لم يقف ترميز اللون الأخضر في تجربة الجماهيرية الليبية، ونظام القذافي على الرؤية الوطنية للحكم المعبّر عنها في الكتاب الأخضر ، وإنما دخل في سنواته الأخيرة في إضافة ملمح ديني عبر احتفال سنوي ضخم، كان يقيمه بمناسبة مولد الرسول، ويشارك فيه رؤساء أفارقة ووفود من كافة أنحاء العالم الإسلامي، يؤمهم القذافي في صلاة طويلة، يقرأ خلالها سوراً طويلة.

يتنازعون اللون الأخضر، لأنه - برأيهم- يمثل رمزية الإسلام ، مثلما يتنازعون تمثيله مذهبياً وثقافياً وسياسياً. 

ولم ينحصر ذلك في الجماعات والتيارات الدينية ، فرؤساء عرفوا بانتماءاتهم لأحزاب وتيارات غير دينية، مثل صدام حسين ومعمر القذافي، وجدوا أنفسهم في لحظة ما يرفعون شعارات دينية ويحدثون خطابهم بملمح ديني، إن بالإحتفاء السياسي بمولد الرسول في ليبيا ، أو بإنشاء فيلق القدس ، وإضافة شعار "الله أكبر" في العلم العراقي في التسعينات، أيام ما سُمي بالحملة الإيمانية، التي تبناها الرئيس الراحل صدام حسين. 

الجماعات العنفية الإرهابية مثل "داعش" ، و "القاعدة" ، تميل إلى اختيار اللون الأسود شعارا لها ، وتسرد في ذلك تبريرات تفسره بأنه إلتزام منها براية المسلمين أيام الرسول ، بينما واقع هذه التنظيمات يقول لنا إن اختيارها الّلون الأسود نوع من الإنجذاب الشكلي يمتحي من مضمون فكرها المتطرف . 

الحسينيات المرتبطة بالجماعات الشيعية تستخدم اللون الأسود في طقوس الحداد الحسينية في أعياد عاشوراء. 

الشريف حسين حاكم مكة كان علمه يتألف من مثلث أحمر اللون، تلتصق به ثلاثة ألوان أفقية، متوازية، هي: الأسود في الأعلى متبوعا بالأخضر في الوسط، والأبيض في الأسفل. وتشير الألوان الأفقية المرفوعة إلى شعارات رفعها العرب قديما (الأسود: الدولة العباسية)، (الأخضر: الدولة الفاطمية)، (الأبيض: الدولة الأموية)؛ أما المثلث الأحمر فيشير إلى الثورة. 

كان الأخضر هو لون رايات الدولة الفاطمية في مصر والمغرب العربي، الذين أرادوا تمييز رايتهم عن راية الدولة العباسية، التي اتخذت بدورها اللون الأسود. 

ولاختيار الرايات السوداء عند العباسيين سببين، الأول: لتمييز نفسها عن راية الدولة الأموية التي كانت ألوانها بيضاء، والثاني: ما ذكره القلقشندي الذي ينسب هذا السواد إلى أن النبي كان قد عقد لعمه العباس بن عبدالمطلب يوم حُنين ويوم فتح مكة راية سوداء، فاتخذوا اللون شعاراً لدولتهم فيما بعد .

الدولة الأموية كانت شاراتها وراياتها بيضاء ، وتنقش فوقها العبارات المكتوبة في خاتم الخليفة ، واستمرت في دولة "الموحدون" في الأندلس باللون الأبيض. 

والأبيض هو لون لباس الإحرام للحُجّاج والمعتمرين. 

اللون الأبيض شائع كرمز لأديان عديدة غير سماوية ، ذلك أنه في معظم الثقافات يرمز إلى الطهارة، والنقاء، والصفاء. 

في الديانات "الثنوية" اعتبر اللون الأبيض ممثلاً لإله الخير، وفي الديانة الطاوية في الصين كان الأبيض هو لون "اليانغ"، والذي يرمز للنهار والنور. وعند الرومان كان الاعتقاد بأنّ الأبيض هو اللون المفضّل عند إله الخصوبة والزواج، ولذلك كانت العرائس يرتدينه في يوم زفافهنّ، وهو التقليد المنتشر اليوم حول العالم. 

وفي ديانة "الزن" اليابانية، كان اللون الأبيض هو لون الأرضيات في حدائق المعابد المقدسة.

اللون الأحمر هو لون الثورات عبر التاريخ. وفِي القرن العشرين، كان سمة مميزة للمنظومة الإشتراكية، بحسب التسمية الشائعة قبل تفكك الإتحاد السوفيتي ، ورمزا للشيوعيين والاشتراكيين عموما ، دولاً وأحزاباً وأفراداً. 

في عدن كانت النجمة الحمراء ماركة مسجلة ودالة على الحزب الاشتراكي اليمني ، وفيها قال شاعر ثائر ومتحمس مزوملاً :

سلام لش يا نجمتي الحمرا 

يا حرية بعد العبودية. 

الجمهورية في الشمال كان شعارها اللون الأحمر ، وجزء من علمها، ولون المنتخبات الوطنية أحمر. 

هل كانت راية الحميريين حمراء؟

يشير إلى ذلك المؤلف البريطاني هارولد يعقوب ، مؤلف كتاب "ملوك شبه جزيرة العرب"، الذي عمل في عدن والمحميات عشرين عاماً، كمساعد أول للمندوب السامي ، بقوله : 

" كان ختم الإمام يحيى يحمل اللون الأحمر ، كما تُرش خطاباته ورسائله بتربة حمراء " لون امغر "، ليبرهن بذلك على أنه قد نجح في ارتقاء عرش الأمراء الحميريين القدماء الذين حكموا البلاد وكان علمهم الوطني يحمل اللون الأحمر وإسمهم يشير إلى هذا اللون ".

علم الاتحاد الأوروبي أزرق اللون وفِي وسطه 12 نجمة ..

يقول مصممه آرسين هاينز إنه استوحاه من رموز دينية مسيحية. عدد النجوم استلهمه المصمم الفرنسي من الرسومات، التي غالباً ما تمثل السيدة مريم، وغالباً ما تكون ممثلة بتاج من 12 نجمة، في إشارة إلى ما جاء في سفر الرؤيا للقديس يوحنا.

واللون الأزرق، استوحاه هاينز من اللون الأزرق للسيدة مريم العذراء، إذ ترتدي -وفق أحد الأسفار- عباءة زرقاء ولديها ياقوتة زرقاء. وهذا ما جعل النواب الفرنسيين يطالبون بإزالته من الجمعية الوطنية الفرنسية في جدالات شهدتها الجمعية الفرنسية في شهر اكتوبر 2017 ، وأشارت اليها صحيفة "لوفيغارو" آنذاك .

وعموما استخدم الأزرق كرمز أوروبي منذ الرومان ، لاتسام الأوروبيين بالعيون الزرقاء. فيما كان اللون الأحمر رمز الحروب الصليبية وفِي وسطه الصليب "علم سويسرا حالياً". 

الترميز في المدن استخدم على نطاق واسع. اللون مفردة من جملة ترميزات شكلية وثقافية وجوهرية تعطي المدن شخصيتها ، مثلما تعطي الأحزاب والجماعات العقدية هويتها. 

في هذا هناك ملمح خاص لكل مدينة ، مثلما هنالك تحديدات عامة في اختيار الألوان تشترك فيها مدن عديدة عبر العالم ، يتم اختيار اللون مثلا بناءا على دراسات تأخذ في اعتبارها ما يناسب العين والأثر النفسي ويكون مريحا للنظر. 

يستخدم الأزرق والسماوي مدنياً كثيرا في مدن العالم كسمة للمدينة وابواب متاجرها ، بينما الأصفر يستخدم في الأرصفة واشارات الاتجاهات وسط الشوارع المسفلتة لأنه يناسب لفت الانتباه . 

في معاني الالوان واثرها النفسي بنيت علوما بكاملها ، وفي هكذا جزئية نعتقدها للوهلة الاولى تفصيلا هامشيا لا يستحق الاكتراث ، ألفت كتباً شهيرة، ونظريات في علوم عديدة لا تنحصر بما له علاقة بعلم النفس. 

في بطون الكتب وأضابير التاريخ قصصاً وحكايات عن عالم الألوان وإستخدامها في الترميز. كان هذا شائعاً منذ الأزمنة القديمة ، ولا يزال مستمراً حتى اليوم. 

الطقوس واحياء المناسبات والتماثيل والمنحوتات ، والشعار الموحد كلماتاً والوانا ، والأناشيد والمعزوفات والتنغيمات الصوتية ، والرايات ، كل هذه الترميزات استخدمت من قبل الجماعات والدول والأحزاب والتيارات السياسية والثقافية والمحافل السرية . 

من هذه الترميزات ما كان جامعاً لأمم وشعوب ، ومنها ما كان مفرقا لأمم موحدة أصابها الوهن ، وأنقسمت إلى فرقاً ، وجماعات ، وطوائف ، ضاعت منها قواسمها المشتركة والموحدة لها ، وتكاثرت نزاعاتها ، وأستفحل شتاتها ، وتصادمت راياتها ، فضاعت ، وضاع ذكرها بين الأمم المتقدمة والشعوب المتحضرة التي أنتظمت في العمل والإنجاز وأبدعت في العلوم والمعرفة والصناعة والتجارة والثقافة وفِي كل مجال يرتقي بالإنسان ويعزز من فرص إزدهار حياته ورقيها.

مقالات

لا ضوء في آخر النفق!

عندما بدأت الحرب على اليمن في 26 مارس، بدون أي مقدّمات أو إرهاصات أو مؤشرات تدل على حرب وشيكة، حيث تزامنت هذه الحرب مع هروب عبد ربه منصور إلى سلطنة عُمان، وكان قرار الحرب سعودياً، ثم إماراتياً خالصاً، تحت مسمى "إعادة الشرعية"، التي في الأصل قامت السعودية بفتح كل الطرق لدخول الحوثيين إلى صنعاء وطرد الشرعية منها، وأن هذه الحرب لم تكن مرتجلة بل مخطط لها لإعادة اليمن إلى ما نحن عليه اليوم، من شتات وتمزّق.

مقالات

هنا بدأت رحلتي

أضواء خافتة تقسم الشارع بالتساوي بين الذاهبين والقادمين، قمر في السماء يوزع ضوءه بين سطوح المنازل وقناة الماء في ميدلبورغ، وأنا أجلس خلف ضوء دراجتي الهوائية، وخلف أمنيتي أن يستمر الطريق بلا نهاية.

مقالات

حديث لن يتوقف!

يومَ أعلن علي سالم البيض بيان الانفصال، في خضم حرب صيف 1994م، تنصَّلت جُل - إنْ لم يكن كل - قيادات وكوادر الحزب الاشتراكي عن مسؤوليتها تجاه هذا الإعلان المقيت، الذي لم تقوَ حُجَّته أمام كل ذي عقل بأنه كان اضطرارياً، كما حاول البعض الزعم به يومها، إذْ لم يجرؤ أحد على القول إنه يتفق مع مشروع الانفصال.

مقالات

أمير الشعر الحميني عبر كل العصور

"لا توجد كلمات غنائية أصيلة بدون ذرة من الجنون الداخلي". يطِلُ عبدالهادي السودي من بين هذه الكلمات، لكأنها كتبت فيه، وعن سيرته، وتفردهُ شاعراً، وعاشقاً، وصوفياً، وعلامة فارقة لِعصرهِ، وشاغلاً للأجيال من بعده.

نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) خاصة بنا. بمواصلة تصفحك لموقعنا فإنك توافق على استخدام ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) وعلى سياسة الخصوصية.