مقالات

حين كانت صنعاء قلب اليمن

09/04/2024, 14:22:08

أجمل رمضانات عشتها في صنعاء، أواخر الثمانينات وبداية التسعينات، أيام الدراسة الإعدادية والثانوية.

كانت صنعاء مختلفة، كانت الحياة سهلة وبسيطة وممتلئة بالوعود، وكان الناس محتفظين بكامل حيويتهم وإقبالهم عليها، والأمل ما زال مزهراً في نفوسهم.

"رمضان هو شهر العمل" هذا ما عرفته وترسّخ في ذهني منذ عرفت صنعاء.

عملت في محل خياطة في باب السباح أثناء دراستي الإعدادية والثانوية.

محلات بيع الملابس في شوارع جمال، والزبيري، والخياطين في باب السباح، وشارع القيادة، كانت قلب صنعاء؛ وبالنسبة لهم كان رمضان هو موسمهم، يحتملون الركود تسعة أشهر بانتظار الحصاد في رمضان.

كان العمل مجدياً للعمال والتجار، وذلك وضع مختلف تماما عن الحال اليوم، حيث يشكو التاجر والعامل، ويواجه كلٌ منهما وضعاً غير مألوفٍ ولم تعرفه اليمن من قبل.

كان البردوني جارنا في باب السباح، أعمل أنا في محل خياطة استأجره صاحبه من التاجر حيدر فاهم أمام بائعات الملوج، ومنزل البردوني على مسافة أقل من مئة متر في الحارة الواقعة خلفنا.

كنت كلما قرأت قصيدة "مصطفى" أشعر ببهجة صامتة، فالرمز المقصود هو عبد الفتاح إسماعيل، يعني في البيت، والاسم الرمزي مصطفى خيرة ما فعل، والشاعر هو روح الحركة الوطنية اليمنية، وضمير اليمن الجمعي، وإلى إحساسي وإيماني بمجاورة البردوني في القضية والانتماء والوطنية والمبدأ والقيمة الأخلاقية، زاد فوقها القرب منه في حيّز جغرافي لا يتعدى عشرات الأمتار، لا تمضي أيام دون ألمحه هنا أو هناك.

أتذكر كل ذلك مع قصيدة "مصطفى"، وكيف كنت أتمتم بها في صباحات رمضان حين أكمل عملي في باب السباح، وأمضي راجلاً إلى سكني في "فروة شُعوب" مردداً القصيدة وفيها:

سيُتْلفون ويزكو

فيك الذي ليس يُتلف

لأنك الكل فرداً

كيفية، لا تُكيّف

يا مصطفى يا كتاباً

من كل قلب تألف

ويا زماناً سيأتي

يمحو الزمان المزيف

"ملك يتجول في عالم يمسكه بقبضة يديه"؛ هذا إحساسي حينها، إحساس طالب في بداية الثانوية، يعمل في محل خياطة، ويمشي راجلا في الخامسة صباحا من أيام رمضان من التحرير إلى شُعوب.

التأمل والروحانية والاتصال بالكون لا نحصل عليها بالضرورة في العُزلة والامتناع عن العمل والاتصال بالناس. كانت كلها هناك في رأس شاب صغير، يعيل نفسه، ويدرّس نفسه، ولا يمتلك سوى مصروفه اليومي، ويمتلأ ثقة مطلقة بالحياة، ويتحِد مع الكون وكأنّه يملك الدنيا بما فيها.

الحقائق الأعمق للحياة والكون تهبط في ذهن شاب صغير اعتاد على المشي في النسيم العليل إلى الخامسة فجراً، متجهاً من التحرير إلى شُعوب، في صباحات رمضان التي لا تتكرر، رمضانات السنوات الثلاث بداية التسعينات من القرن الماضي.

الأفكار لا تأتيك عندما تنتظرها جالساً في عُزلة داخل مكتب أو بيت، أو حتى على رأس جبل خالٍ من البشر وزحمتهم.

الإرسال الكوني يأتي أثناء المشي. التواصل الكلي يأتي للرجل المعافى؛ ورجل الفعل هو المعنى الحقيقي للعافية.

أتذكر أنني كنت أقرأ لمدة ساعة، بعد وصولي إلى سكني في "فروة شُعوب"، في رواية لا أتذكر عنوانها، للروائي الفرنسي "تي إس لورانس"، يقول في إحدى صفحاتها: [إن كون المرء حياً يشكل أرستقراطيّة لا يمكنُ الذهابُ أبعد منها، والإنسان الأشد حياة، فعليّاً، هو ملكْ، سواءً اعترفوا بذلك أم لم يعترفوا..

أشدّ حياة؛ حياة أشد حيويّة، وليس مزيداً من البُدَناء الآمنين، أو حشود الناس الزائدة..].

كل يوم كنت أمشي فيه أحس أنني على ما يرام.

في شُعوب، كنت أصادف بين الحين والآخر الفنان محمد حمود الحارثي، لم يكن يعجبني غناؤه حينها، وقد أدركت لاحقاً أن فن الحارثي مثل الحكمة التي يُقال إنها لا تأتي إلا بعد الأربعين. مع أني لا أؤمن بذلك، فالحكمة مرادفة لذكاء الروح، وليست بالضرورة نتاج العُمر.

ربما لم أكن بحاجة إلى الحكمة حينها، ولا إلى أغاني الحارثي، فالحكمة المبكرة خدش على جدار الروح المتقدة ونظرتها الجامحة، وحتى المتهورة إزاء الحياة وأسئلتها وتحدِّياتها.

كان الفنان الحارثي نظيفاً، تلمحه في "فَروَة" لابساً ثوبا أبيض، ناصع البياض، وكل ما فيه نظيف: الكوت، الصندل، حتى الجنبية فوقه لم تبدو لي مقززة مثلما هي فوق «القبائل».

لا أدري لماذا خطر هذا التشبيه عندي حينها، كلما رأيت الحارثي يبدو لي كأنه السفير الفرنسي وسط زحمة القبائل بأكواتها المغبرة، وهيئات الناس المتآلفة مع كل ما هو عشوائي ومضاد للنظام.

مع أني لم أشاهد سفيرا فرنسيا قط، إلا أن فرنسا كانت تحضر في ذهني كمرادف للأناقة والتحضّر. ربّما تركت روايات ديستويفسكي انطباعاً مشابها، على ما أتذكر كانت "اللغة الفرنسية والإتيكيت عند الفرنسيين حاضرة في صفحات رواية، أو أكثر من رواياته.

كانت السنوات الثلاث الأولى، التي تلت تحقيق الوحدة اليمنية بداية التسعينات، هي ربيع اليمن المبكِّر. كانت ربيعا حقيقيا عرفته اليمن قبل أن تعرف، مع بقية العرب، "الربيع العربي" بعدها بعشرين عاماً.

بين ليلة وضحاها، أقتلبت صنعاء إلى قلب اليمن النابض بالحياة: عشرات الأحزاب، وعشرات الصحف الجديدة في الأكشاك.

كنت أحجز نسختي من «صوت العمال»، وصحيفة «الحياة» اللندنية كل يوم في الكشك المقابل لمبنى الاتصالات. بقية الصحف لم تكن تنفذ طبعاتها.

كانت «صوت العمال» شعلة توقد الحماس بنفَسَها الشعبي التحريضي، ومقالات عبد الحبيب سالم مقبل في زاويته بالصفحة الأخيرة «الديمقراطية كلمة مُرة».

صحيفة «الحياة» كانت بالنسبة لي نموذجا للفخامة الصحفية، فخامة تتجلى في الصور المرفقة بالأخبار والتقارير، الأسلوب الرصين والمدروس، والأهم أننا كنا نلتقي على صفحاتها بالجملة الحديثة في الأدب والشعر والسياسة والترجمات.

على صفحاتها انتظمت لقاءاتي بأدونيس، نزار قباني، إدوارد سعيد، عزمي بشارة، حازم صاغية، وآخرين كانوا يطلُّون علينا من مقالاتهم وملاحقها الأسبوعبة؛ وأهمها في عددي السبت والأحد «آفاق، تيارات».

إذا كان التحرير قلب صنعاء حينها، فإن باب السباح كان قلب القلب النابض بالحياة. أتذكر الشاعر عباس المطاع، كنت أشاهده دوما يلبس بدلات "كابية" بألوان قاتمة، وسماعة الأذن لا تفارقه. بدلات "كابية" تشبه لون وجهه، وهما نقيضان للون قصائده المشرق؛ لعل قصيدته التي حوّلها صوت الفنان علي الآنسي ولحنه الجميل إلى أيقونة الأعياد «آنستنا يا عيد» أهم ما كتبه في شعره الغنائي وغير الغنائي.

في بداية عام تسعين، وكان النشاط الحزبي قد أصبح علنياً ومحمياً بقوانين دولة الوحدة التي أقرّت التعددية السياسية، أتذكر أن رزمة من استمارات العضوية للحزب الاشتراكي كانت في حوزتي. وضعتها في رف داخل غرفة داخلية للعمل تمر إليها من المحل الذي على الواجهة. كانت ثلاث مكائن يعمل فوق إحداها خياط إخواني سلفي اسمه حيدر، لا يخزّن، ولا يبتسم، ولا يتحرّك من فوق الماكينة سوى في خرجاته لأداء الصلاة في مواعيدها بجامع «قبة المتوكل، بجانبه كان خياط آخر اسمه محمد خالد، منفتح ويناصر الحزب الاشتراكي دون أن يعرف شيئا عنه، أو يكون عضوا فيه. أخذ الرجل مجموعة استمارات، وبين الحين والآخر كان يوقف الماكينة ويلفت باتجاه حيدر وهو يهزج ملحناً كلامه: هيت شيت أتعلمنا الحزبية .. هيت شيت أتعلمنا الحزبية!

أؤمن بالبريق اليومي لجاذبية العلاقات الاعتيادية، الارتباط الذي نعيشه أحياناً مع الأماكن والأشخاص، وما شابه ذلك؛ وهو ارتباط غير قابل للتفسير. 

كانت الحياة اعتيادية تماماً، ولكنها كانت آسِرة. ربما أن الحُلم كان ما يزال طرياً، والحياة لم تستنزف بعد، ولم ينهكها الغيلان والذئاب التي كمنت لليمن في قارعة الحلم، وحوّلت وعدها البهي إلى مآسٍ وانقسامات وصراعات مثّلت النفق الذي أعاد اليمن إلى زمن لم يكن يخطر ببال أحد أنها ستعود إليه يوماً ما.

بعد ذلك الزمن، رمضانات صنعاء الزمن القديم، الذي يبدو نائياً وبعيد المنال، قرأت جملة كهذه تتحدث عن التأمل: «الروحانية ليست في القدرة على شفاء الآخرين، أو أداء المعجزات، أو إبهار العالم بحكمتنا، ولكنها في القدرة على أن نقاوم، بسلوك صحيح، في أي اختبار علينا مواجهته في الحياة اليومية، والتغلب عليه».

أعادتني هذه الجملة إلى رمضانات صنعاء أيام باب السباح، العمل، الدراسة، الوجوه النابضة بوعود الحياة، انهماك بائعات العنب والملوج بالعمل. تتأكد بهكذا ذاكرة أن التأمل الروحاني يقع في زحمة العمل لا في المعتزلات الباردة.

تأتي إليك حقائق الكون كلها بينما صوت المكائن يصم أذنيك؛ تأتيك بينما تجلس القرفصاء لتتشارك السحور مع العمّال كيفما اتفق؛ تأتيك وأنت متخففاً من كل امتلاك، طالباً وعاملاً وعازباً حراً، بلا خصوصيات، وبلا مراجع، وبلا أماكن ثابتة، وبلا أقنعة، وبلا أي شيء سوى روحك الوثابة المتقدة بالحُلم، وثقتك القصوى بالعالم.

مقالات

أبو الروتي (3)

(لحظة انطلقت بنا السيارة شعرت بأنّي كبرتُ، ولم أعد طفلا) فيما رحت أتقدّم باتجاه بيت جدي علي إسماعيل، تذكّرت كلام جدتي، وهي تودّعني عند مشارف القرية، وتقول لي:

مقالات

المساندة لكيان الاحتلال والأكفان لفلسطين!

منذ البدء؛ اختارت الكثير من الأنظمة العربية توزيع الأكفان في غزة. كان ذلك يختصر كل شيء: نتنياهو مطلق اليد، يتولى ذبح الفلسطينيين، بينما ستحرص هذه الأنظمة على أن يكون تكفين الضحايا عربياً خالصاً!

نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) خاصة بنا. بمواصلة تصفحك لموقعنا فإنك توافق على استخدام ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) وعلى سياسة الخصوصية.