مقالات
دروس من الانتخابات الأمريكية
هي حدث مألوف، وليست جديدة، ولا لأول مرة، لكن الإنتخابات الأمريكية لم تفقد رونقها ودهشتها، على الأقل بالنسبة لمجتمعات تعيش أزمة السلطة ولم تنجح بعد في إرساء قواعد لتداولها بطريقة سلمية.
هذه الإنسيابية في تولي رئيس ورحيل رئيس تبدو لنا كأنها معجزة "تبدو النتيجة شبه محسومة بفوز بايدن وهزيمة ترامب ساعة كتابة هذا المقال".
البلد الأكبر في العالم، بحجم اقتصاده ونفوذه، وقوته العسكرية، وهيمنته على النظام العالمي، يتغير حاكمه وفق قواعد يحترمها الجميع، وبدون قتال أو نزاع عنيف من أي نوع.
تبدو مؤسسات الدولة وقد اكتسبت شخصيتها المستقلة عمن يتولاها، منذ زمن بعيد.
هذا ما يفسر كيف أن تولي رئيس أهوج مثل دونالد ترامب لم يشتغل كعامل اضطراب داخل السلطة والمجتمع.
الشخصية المستقلة للدولة ومؤسساتها في أمريكا قادرة على الإستفادة من كل من يتربع عليها، وتوظيفه لمصلحة الدولة والمجتمع الأمريكي.
عاصرنا: بوش الأب، كلنتون، بوش الإبن، أوباما، ترامب، وعلى تنوعهم استفادت أمريكا من كل رئيس على اختلاف نهجه وأسلوبه.
المؤكد أن هذه الاختلافات تتنوع تحت سقف واحد، وفِي ظل محددات استراتيجية للدولة ومؤسساتها، لكن ذلك ليس حجة ضد الديمقراطية الأمريكية وإنما لصالحها، كونها تهدف في غاياتها النهائية إلى إدارة الدولة الأمريكية بأفضل طريقة ممكنة تحقق مصالحها، وتخدم مواطنيها، لا العمل ضد نفسها، وضد مواطنيها.
الحدّية والتنافر في هذه الإنتخابات، والتشكيك بالنتائج ليست جديدة. هذه السمة برزت أكثر حدة للصراع بين الديمقراطيين والجمهوريين في أمريكا منذ فترة جورج بوش الإبن، وتحديدا في انتخابات الدورة الثانية مع منافسه "آل جور".
التشكيك بالنتائج والطعن فيها كان في ذروته آنذاك، واحتاج الفصل فيها إلى انتظار قرار المحكمة العليا، التي احتاجت أسبوعين آنذاك للفصل في نتيجة الإنتخابات، وتسمية الرئيس الفائز فيها.
قبلها شكلت قضية "مونيكا" فضيحة للرئيس بيل كلنتون، الذي كذب في التحقيقات، واحدة من ملامح حدة الصراع بين الحزبين.
هذه الوقائع تقول إن الصراع بين الحزبين لم يعد اعتياديا، ولم يعد محصورا في مواسم الانتخابات، لكنه يبقى محكوماً بقواعد إدارة الحياة السياسية التي يقر بها ويحترمها الجميع.
هذا الارتفاع في وتيرة التنافس والصراع السياسي لم يعد مقتصرا على الداخل، فقد تجاوزه إلى الملفات الدولية ، وأصبح للحزبين توجهات متباينة دوليا، تستقطب حولها حلفاء في العالم من الدول والأنظمة والحكومات والتوجهات السياسية.
حالة الإستقطاب الحادة تأججت بوجود شخصية مثل دونالد ترامب في البيت البيض.
ساعدت فجاجة الخطاب المنفلت عند ترامب في إعطاء طابع صاخب للسجال السياسي، لكن التوجهات العنصرية والإنعزالية وخطاب الكراهية -الذي عبّر عنه- يعبّر عن نمو تيار عنصري إنعزالي وتصاعد خطاب الكراهية ومعاداة الأجانب والمهاجرين داخل أمريكا والغرب عموما.
كان فوز ترامب هو ذروة صعود تيار العنصرية والإنعزالية والكراهية في أمريكا، والغرب عموما، وستكون هزيمته نكسة لهذا التيار في أمريكا والغرب، لكنها لن تكون نقطة النهاية لهذه التوجهات.
ومع المخاطر التي لوح بها خطاب العنصرية "الترامبي" أمام الداخل الأمريكي، فإنه لم يكن شراً محضاً للأمريكيين. هو خدمهم إقتصادياً، وأستخدمت أمريكا وقاحته الفجة في تسريع وتيرة إبتزاز أمراء السعودية والخليج بمستويات قياسية، مستغلةً حالة الطيش التي تموضعت داخل الأسرة السعودية بصيغة ولي العهد محمد بن سلمان، وبجانبها حالة الصبيانية التي عكست نفسها على نهج الثورة المضادة لثورات الربيع العربي، التي قادتها السعودية والإمارات في المنطقة العربية.
ومضافا لذلك، الإجرءات الأحادية الجانب التي اتخذها ترامب لفرض رسوم جمركية مضاعفة أمام الصادرات الصينية، ومن بعض الدول الأوروبية مثل ألمانيا، وهي إجراءات ترمي عرض الحائط باتفاقية التجارة الدولية.
كان ذلك منطق القوة عارياً وبلا أقنعة: القوة هي القانون. وما يتعارض مع مصالح القوي (أمريكا) يتعطل، حتى ولو كان إتفاقية التجارة العالمية التي عُممت عالميا كأنها أحد المواثيق المقدسة للنظام العالمي، وأجبرت دول العالم الثالث على فتح أسواقها لكل ما يأتيها من سلع وبضائع وحتى مخلفات المخازن وقمامتها.
غير أن وظيفة ترامب استنفدت، وتأثيره الكلي على الإدارة الأمريكية وشخصيتها وتوجهاتها الإستراتيجية لا يُحتمل لأكثر من فترة عارضة.
الأمر أكثر تعقيدا من أن نرى في ذلك مؤشرا على "مُتحكمين" خلف الأضواء يديرون دُمى متحركة ويقررون من يبقى ومن يذهب. إنه سر أمريكا وقدرتها على تنسيق خطواتها لتمضي عبر مسارات متباينة، ولكنها تصب في النهاية في المصب الذي يخدمها.
وربما أن نظاما بهذا التعقيد، وبهذا الرسوخ بمؤسساته، التي اكتسبت شخصيتها المستقلة عن كل الفاعلين المتغيرين، قد امتلك، عبر التراكم المستمر ، القدرة على احتواء النتائج غير المرغوب فيها، وتجاوز الاحتواء إلى استخدامها لصالحه، ووفق ما تتميز به، لا بقسرها على اتخاذ سمة لا تتلاءم مع طبيعتها. وشرط ذلك هو القوة، القوة بمعناها الشامل، التي تجعل صاحبها دائما قادرا على المناورة والاحتواء.
ترامب بهذا المعنى كان حالة غير متوقعة، تم إفراغها من انعكاساتها الفوضوية، وتوظيف فجاجتها من قبل دولة قوية وقادرة على استثمار حتى فجاجة القاعد على تلتها.
سمة ترامب الخارجة عن المتوقع تكمن في نزعة عنصرية منفلتة، كان بإمكانها أن تراكم عوامل الإضطراب والفوضى داخل أمريكا، إذا لم تكن داخل نظام راسخ ولديه ديناميكيات معقدة للحفاظ على توازنه ومنظومة قواعد العمل المتبعة داخله.
من المهم عدم الخلط بين الديمقراطية الأمريكية، والسياسة الخارجية الأمريكية. هذه الأخيرة معادية للعرب وتخدم إسرائيل، وتستخدم حلفاءها العرب من أجل هذا الهدف، لكنها بهذا تخدم مصالحها ولا تخون نفسها. ينتخب الرئيس الأمريكي لخدمة مجتمعه ومصالح أمريكا، لا لخدمة العرب وقضاياهم.
إن ندرك نقطة قوة أمريكا الداخلية "النظام الديمقراطي"، لا يعني أن نبارك سياستها وتوجهاتها من قضايانا العربية وبلداننا.
الغريب أن نتوقع من دولة عظمى تهتم بمصالحها ونفوذها، أن تراعي مصالحنا وقضايانا أكثر مما يفعل العرب أنفسهم (الدول العربية وأنظمتها).
حلفاء أمريكا العرب يتعاملون معها وكأنهم لصوص أوطان يستظلون بغطائها لحمايتهم، ولا يتصرفون كحلفاء يبنون علاقات بلدانهم مع الدولة الكبرى في العالم وفق تبادل المصالح للطرفين، كما هي الحال في حالات عديدة لدول مختلفة في العالم تقيم علاقات وثيقة مع أمريكا، وتحافظ على مصالحها وقضاياها.
الحالة العربية الفارقة لا تُفسَر فقط بكون إسرائيل ومصالحها معيارا أساسيا للسياسة الأمريكية في المنطقة العربية. هذا سبب أساسي، ولكن الأهم منه هو الإستبداد والأنظمة الملكية الكرتونية، التي نصبها الإستعمار البريطاني، وورثت أمريكا دور رعايتها وحمايتها.
عندما تفتقد المشروعية الشعبية في الداخل، وتغدو السلطة والبقاء فيها هي غاية الغايات، تتحول الأنظمة الحاكمة إلى مجموعة عصابات "مافيوية" مرتبطة بالدول الكبرى، وتستمد منها أهم مبررات بقائها.
سواءً نظرنا إليها من زاوية افتقادنا لها، وحاجتنا لها في بلداننا العربية، أو تأملناها هناك في أمريكا ودول الغرب الأوروبي، تبقى الديمقراطية هي أفضل ما أنجزته البشرية لتجنب تحول السلطة إلى مشكلة مستعصية ومصدرا للصراعات المدمرة والحروب والإعاقة المزمنة.
من خلال الديمقراطية تتحول السلطة من أزمة مزمنة وعامل اضطراب وتدمير للدول والمجتمعات التي تفتقدها إلى عامل استقرار وتماسك للدول والمجتمعات، التي رسختها في نظامها ودولها ومؤسساتها.
ووحدها الأنظمة الديمقراطية تستطيع تصحيح أخطائها وتجاوز نفسها من خلال الديمقراطية نفسها.