مقالات
"رُعاة الإبادة" في سواحل اليمن
الجمهورية اليمنية بلد بحري أساسا، تمتد سواحله على مسافة تتجاوز 2500 كيلو متر على البحرين الأحمر والعربي، ويشرف على واحد من أهم الممرات البحرية في العالم، ويمتلك ما يقارب 300 جزيرة وجرف بحري. هذه حقيقة جغرافية وجيوسياسية لا جدال فيها.
المطلع على الدراسات البحثية المتعلقة باليمن، في العقود الأربعة الماضية، سيجد عشرات المراجع التي تركز مجال اهتمامها على هذه السمة الجيوسياسية المهمة لليمن كبلد ذي أهمية عالية بسبب سواحله وجزره وموقعه الإستراتيجي.
في بعض هذه الدراسات، يصل الأمر إلى حد أن يوحي لك لسان حال الأجنبي، المتأمل في خريطة اليمن، بمقولة ساخرة تقول لليمنيين: لماذا تتركون الغرف المهمة في بيتكم، وتتزاحمون في الجبال والهضاب الجرداء؟
أكثر من 70% من اليمنيين يتجمعون في مساحات بعيدة عن السواحل، لا ماء فيها ولا فرص للحياة.
إعادة توزيع السكان لا يتم بانتقالات جماعية تشبه الغزو الداخلي. الأمر مختلف تماما ، وكان يحتاج إلى دولة حديثة تعيد هيكلة اليمن عبر مشاريع اقتصادية وتنموية كبيرة، وتخلق فرص عمل في سياق موضوعي يمكِّن اليمنيين من إعادة بناء بلدهم في ظل دولة مواطنة حديثة متحررة من العصبوية والتمييز الطائفي والمناطقي، دولة لكل اليمنيين.
اليمن دولة بحرية، خلافا لما كانت عليه الصورة الناتجة عن ذهنية قاحلة فوتت على اليمن ممكنات التنمية في مرحلة كانت الفرص فيها متاحة للبناء على موقع اليمن الإستراتيجي وسواحلها وجزرها وثرواتها النفطية والغازية.
هذا الضلال، الذي مضت فيه السلطة قبل 2011، كان السبب الرئيسي لما حصل بعدها من سقوط للدولة، واحتراب أهلي، وانكشاف تام لليمن أمام أطماع الخارج ومخططاته. الجماعات الما قبل وطنية والاحتراب الأهلي المتداخل مع الحرب الخارجية على اليمن، هذه اللوحة هي صيغة لاستمرار النظام القديم عبر شظاياه وتركته ونتائجه، ومن الإجحاف تحميلها قوى التغيير الشعبية العزلاء من تراكمات القوة والثروة، وهي قوى شعبية تطلعت للتغيير، ووُجِهَتْ بحروب انتقامية من الداخل والخارج.
كان مشروع الغاز في بلحاف إنجازا كبيراً ومهماً لإعادة موضعة اليمن على أسس تنموية في السواحل والوديان الممتدة من مأرب والجوف إلى حضرموت والعَبر. لكنه بقي حالة استثنائية مفارقة لفلسفة الدولة الرخوة، وذهنية قاحلة تديرها وتهدر كل فرص نموها واستقرارها وازدهارها.
كان علي عبدالله صالح ونظامه، في 2008، في وضعية نموذجية لكي يضع مصلحة اليمن مقياسا وحيدا بشأن ميناء عدن، وأي اتفاقية لإدارته، لكنه لم يفعل، وسلم ملفه لمنافس، هو آخر جهة في كوكب الأرض يمكن أن تكون مهتمة ببنائه وتفعيله "شركة موانئ دبي".
ليتذكر كل من يلوم ثورة 2011 ذلك جيداً، إنهم فرّطوا بميناء عدن، وباعو الغاز بأسعار بخسة، مع أنهم كانوا في ظل دولة متماسكة، وحالة استقرار، وفي ظل وحدة القرار السياسي بإرادة الرجل الأول والأخير في البلاد حينها. كما أن ثورة 2011، التي لم يستقر لها وضع ولم يتشكل لها نظام سياسي يعبِّر عنها، ولم تجد نخبة تمثلها ولا دولة تمسك بها، قد عدلت فقط بتأثير مناخها العام اتفاقية الغاز، وألغت اتفاقية مجحفة، كان مضمونها تعطيل ميناء عدن وليس تفعيله.
"ميناء عدن"، وقرار حكومة باسندوة بإلغاء اتفاقية إدارته من قِبل شركة موانئ دبي، هو أحد أهم مفاتيح فهم ما جرى وما يجري منذ 2014.
ميناء عدن هو الرافعة التي سوف تتكامل مع الأهمية الإستراتيجية لباب المندب، وكان تفعليه سيمثل خطوة كبيرة في طريق تمكين اليمن من استثمار ميزاتها الإستراتيجية كموقع وموانئ وسواحل وجُزر وثروات نفطية وغازية، لكن شيئا من ذلك لم يحدث في زمن الفرص الضائعة والطاقات المهدورة.
كان لا بد أن يبقى ميناء عدن مرمياً في الهامش لكي يبقى ميناء دبي وجبل علي بدون منافس.
ميناء عدن مضافا إليه السواحل اليمنية وباب المندب ومشروع الغاز والنفط اليمني والجزر اليمنية، كل ذلك خلطة واحدة مع بعض، كانت أحد دوافع الإمارات والسعودية، والقوى الدولية المرتبطة بهذه التابعيات، للتوجه نحو مساندة مسار إسقاط الدولة أولاً، ولاحقا تغيير الموقع، دون أن يتغير الاتجاه، لوضع اليمن بالأرض عبر الدخول من بوابة الشرعية لاستكمال النصف الثاني من جملة تدمير اليمن ومحاولة إعادة صياغتها تحت إرادتهم وموضعتها في إطار مصالحهم.
كانت الإمارات تحديداً، ومن خلفها بريطانيا وأمريكا، تقود لوحة الخراب في اليمن في مرحلة الحرب وسنواتها الثماني المهلكة، من أول يوم وهي تعرف ماذا تريد من اليمن.
تحويل جزيرة ميون إلى قاعدة عسكرية إماراتية في الظاهر، وإسرائيلية في الباطن، حدث قبل سنوات، وتم نقل معدات من قاعدة باريتريا إليها، وهذه لم تكن سوى خطوة ضمن سلسلة من خطوات الهيمنة على المنطقة الإستراتيجية في باب المندب والسواحل اليمنية؛ من سقطرى إلى ميون إلى غيرها من الجزر والسواحل والموانئ والمنشآت النفطية والغازية، مضت الإمارات بحماس في قيادة مخطط إعادة رسم خارطة اليمن، كوكيل دولي يقيم علاقات وثيقة مع إسرائيل ويحظى بدعم مطلق من النظام العالمي بقيادة أمريكا وبريطانيا. نفذت كل ما يحتاجه مخطط التقسيم بأريحية بعد أن ضمنت، بمساندة السعودية، تحييد "حامل الراية الشرعية، وضرب مركز الرئاسة في نهاية المطاف بإبعاد هادي واستبداله بمجلس غير دستوري يضم متناقضات لا تُجمِع على قاسم مشترك، سوى الإذعان لقرار أبوظبي والرياض، وتسليم القرار السيادي للخارج.
لا يحتاج الأمر إلى شدة ذكاء أو فيض من حكمة كي يدرك أن الاحتشاد الدولي في السواحل اليمنية وباب المندب هو جزء من هيمنة استعمارية قديمة جديدة تقودها أمريكا وبريطانيا، وتعيد تأكيدها مع كل حدث تراه مهددا لها أو ينذر بتطورات تخرج عن سيطرتها. الحدث الراهن هو حرب الإبادة في غزة، وهي جزء من إطار أوسع للتصفية النهائية للقضية الفلسطينية، وإعادة رسم خرائط المنطقة كلها حول إسرائيل، وكأنها زمن جديد يراد له أن يكون مهيمنا على بلاد العرب كلها.
باب المندب والسواحل والجزر اليمنية، هدف أساسي للقوى الدولية وسياساتها في اليمن في كل المراحل، اتخذ صيغة الوكلاء الإقليميين «التحالف السعودي - الإماراتي» في حرب السنوات الثماني الماضية، وهي أيضا هدف للإحتشاد الخارجي تحت عنوان "التحالف الدولي" لحماية الملاحة البحرية «حماية مصالح إسرائيل».
مزق «التحالف العربي» اليمن ونفذ فيها برنامجا مدمرا، كانت نتيجته يمن ممزق بلا دولة ولا شرعبة ولا سيادة. فرض التحالف السعودي - الإماراتي سيطرته على المنطقة الإستراتيجية في السواحل والجزر وباب المندب، وترك اليمنيين يقتتلون في المساحة المكتظة بالسكان، وقطعت أوصالهم طائفيا ومناطقيا وجهويا وشطريا، وتحولت خارطتهم إلى دويلات وجموع سكانية منهكة غير قادرة على تقرير مصيرها. تم تصميم الحرب، أو الحروب المتعددة داخلها، لاستنزاف اليمنيين وإنهاكهم ليبقوا بعيدا عن قبضة الخارج على الخارطة البحرية لبلدهم: جزر، سواحل، ممر، غاز، نفط. وكأن الخارج يقول إن اليمنيين ليس من حقهم الإشراف على باب المندب وإدارة سواحلهم وموانئهم وجزرهم، سواء كانوا شرعية معترفا بها دوليا أو سلطات أمر واقع تتوزع في أكثر من منطقة في خارطة اليمن.
الذين يهللون الآن لاستقبال الأساطيل العسكرية الأمريكية البريطانية في الموانئ والسواحل والجزر اليمنية بمبرر «حماية الملاحة الدولية» عليهم أن يستعيدوا وعيهم بالنظر إلى الخراب العميم الذي حصده اليمن من «التحالف العربي»، الذي رحبوا به بمبرر «دعم الشرعية اليمنية»، التي كانت إحدى ضحاياه بعد أن أهلك اليمن ومزقه، واحتكر قراره السيادي.
حصاد مر يمكن أن يتضاعف أثره وتتثبت خرائبه مع قدوم أساطيل «التحالف الدولي» الذي أجبرت الأحداث فاعليه الأساسيين، أمريكا وبريطانيا، على التخلي عن العمل من خلال الوكلاء في منطقة يمكن أن تُربِك حركة الأساطيل والسفن التجارية في لحظة حرجة أهم ما فيها حرب الإبادة الجماعية في غزة.
هل يوجد في اليمن اليوم من يصدق أمريكا وبريطانيا، وهو يشاهد يومياً رعايتهما لحرب إبادة جماعية بحق إخوانهم وأهلهم الفلسطينيين في غزة؟ هل سنصدقهم، وسلسلة النكبات التي عانت منها اليمن، كلها كانت بإشرافهم ومؤامراتهم؟
لا وعود يقدمها الخارج سوى المهانة والضياع. لا تسمحوا للخارج مجددا باللعب على عواطفكم وانقساماتكم. الخارج يُمزِق الدول ولا يعيدها. غزت أمريكا العراق وهللت لها نخب رفعت شعارات الديمقراطية وحقوق الإنسان، وإسقاط المستبد الداخلي حتى بالتحالف مع الغزاة؛ وكانت نتيجة ذلك تدمير العراق وإسقاط دولته وتسليمه لإيران، والمليشات، والفوضى والضياع؛ ضياع بلد وتمزيقه نكبة تاريخية تكسركم كلكم من جذوركم.
في اليمن نخبة رخوة فاشلة وخائنة، سقطت الدولة في صنعاء من باب رخاوتها، وتواطؤاتها وارتهانها للمحور العازل للثورات في الرياض وأبوظبي.
وسقطت الشرعية والبلد كلها في عدن من باب رخاوتها وفشلها وخيانتها وارتهانها لدول خارجية ليست السعودية والامارات، سوى وكيلها المنفذ لتمزيق اليمن.
ما الذي تبقى كي يسقط في خطيئة الاصطفاف مع إسرائيل، والترحيب بالغزاة الدوليين في سواحل اليمن؟