مقالات
روسيا من جديد!
أمريكا تتحرك وتحفّز حلفاءها، وكأنّ شبح هتلر روسي اسمه بوتين يحلّق من جديد فوق أوروبا، فيما هذه الأخيرة تبدو باردة وغير متحمّسة لشيء. وحدها بريطانيا، التي غادرت الإتحاد الأوروبي، تجاري واشنطن في مخاوفها.
الغرب أقوى باقتصاداته وهيمنته على العالم، لكن روسيا هي روسيا، مادة خام لم تفقد احتدامها ولا رغبتها في إثبات قوّتها أمام الغرب.
لو مرّ أي بلد في العالم بحكم بوريس يلتسن، والاستباحة التي عرفتها روسيا في عهده، لن يكون بمقدوره البقاء محافظا على دولته وكيانه، وربما يحتاج فترة زمنية قد تمتد نصف قرن ليستعيد تماسكه، لكن روسيا فعلتها وخرجت متماسكة، وتستعيد قوتها ومكانتها من العام التالي، لطيّ صفحة انحطاطها في العقد الأخير من القرن الفائت.
هي بلد إمبريالي يأخذ أغلفة مختلفة عن إمبريالية الغرب. روسيا لا تعرف الديمقراطية، ولن تعرفها، لكنها تعرف مصلحتها، وتدرك جيدا مكامن قوتها، وتحافظ عليها.
لا ديمقراطية في روسيا، وإن أجرت انتخابات بعد انتخابات، فهي تنظّمها لتؤكّد تفويضها ل"قيصر جديد"، يختلف في شكله وأيديولوجيته، لكنه لا يتوه عن النبع الروسي، والسمة 'الدولتية' الخاصة بالدولة الروسية.
مرّة أخرى تؤكد روسيا أن ما يحددها هي طبيعتها الدفينة في أعماقها كأمّة تتوثّب لإثبات مكانتها كإمبراطورية، أمام الغرب النقيض لها، الذي سبقها في تقدّمه لقرون عديدة.
بحسب إميل سيوران، فإن روسيا، وبمعزل عن مستوى تحضّرها، فهي ما زالت تمتلك ذخيرة بيولوجية من العبث والبحث عن مثيل لها في الغرب.
"إذا كانت روسيا اليوم أقل درجة من الغرب فهذا يعني ان مستواها لا يمكن إلا أن يرتفع ويرفعها معه".
"لنقل إنها مجبرة على الصعود. "
روسيا ليست شيوعية، ولا أرثوذكسية، ولا قيصرية، ولن تكون ليبرالية لو أرادت.
روسيا هي روسيا، وكل اعتناق لها هو رداء تحاول من خلاله إثبات نفسها كقوة عظمى أمام الغرب.
يخبرنا سيوران عن "الروسي"، واصفا إياه بأنه "يكره أن يعرف نفسه وأن يلزم حدوده، ولا يُعنى إلا بما هو ملتبس في السياسة والأخلاق، والأخطر من ذلك أنه لا يُعنى إلا بما هو ملتبس في الجغرافيا أيضاً، دون أي من تلك السذاجات المتأصلة في "المتحضرين"، الذين أعمتهم عن الواقع جرعاتهم المفرطة من "التراث العقلاني".
ومن هذه السمة القارة في الروسي ودولته خلُص سيوران، في سبعينات القرن الماضي، إلى أن روسيا لم تكتفِ بالمصائب التافهة سواءً تلك التي تسببت فيها أم تلك التي هبطت عليها.
هي تأخذ وقتا مستقطعا بين حين وآخر ، تعود بعده أكثر تصميما على التمدد فوق أوروبا، لا فقط محيطها الحيوي، كما تفعل حاليا فوق أوكرانيا وجورجيا ومجموعة الدولة المستقلة التي كانت تشكّل معها الاتحاد السوفيتي.
ولولا أمريكا لورثت روسيا نفوذ ألمانيا الهتلرية في أوروبا كلها، وبعجرفة أشد، أليسوا أيضا يدّعون أن عرقهم السلافي هو أصل الأقوام الجرمانية؟
حسابات البنوك ورأسمالية المضاربات والأوراق المالية، والديمقراطية، والدولار، والسينما والفنون والليبرالية والمجتمعات الحديثة، كلها في خانة أوروبا وأمريكا، لكن روسيا لديها مكامن قوتها، ولديها رغبة لا تكلّ لتكون إمبراطورية تنافس الغرب، أو تثبت مكانتها أمام حضارته المتجددة، التي تبدو كأنها ارتقت إلى مستوى يضعها مسارا مستداماً للعالم كله، وقادرة على تجديد نفسها والحفاظ على هيمنتها واستوائها كحقيقة وطابع حياة يعمّ العالم.
حاولت روسا عبر الاتحاد السوفيتي، ووجدت بعد سبعين عاما أن الأيديولوجية الشيوعيه وشركاءها في الاتحاد السوفيتي يثقلون عليها، فخلعت أحمالها، وانكفأت لتعيد ترتيب نفسها.
هكذا هي الأمم العظيمة، تسترخي قليلاً لكنها لا تسلّم قيادها لخصومها.
روسيا والصين مثالان يصلحان لجدل مضاد يسجل نقاطا للنظام الشمولي في مواجهة الديمقراطية، لكنهما حالتا استثناء يؤكد القاعدة ولا ينفيها.
الأهم أن "جاذبيتهما“ دولتية كلية لا فردية إنسانية.
بإمكانك أن تُعجب بالصين أو روسيا كدولة، لكن نموذج حياة الصيني أو الروسي ليست مثالاً يستدعي الإعجاب.
هاتان الدولتان يكاد كل شيء فيهما يقول إنهما لا تصلحان إلا تحت أنظمة شمولية.
بنية دولتية شمولية تكاد أن تكون عقيدة راسخة، لكنها من فرط أصالتها وتأصيلها تاريخيا وثقافيا، تحررت من الجوانب الكارثية لحكم الفرد، الفرد الذي وإن استبد واستوى في هذين النموذجين قيصر أو إمبراطورا، فإنه يبقى ممثلا لمصلحة كلية لأمته، لا فردا مارقا تحكمه شهوة السلطة ويستدعي عائلته وعصبيته وطائفته ليقيما معا دولة الفرد المفرطة بدولة الأمة ومصالح مجتمعها.
لا نقدم المديح للديكتاتورية هنا، وإنما نتحدث عن العالم الآخر، روسيا والصين، المفارقتان لبقية الأمم.
لا يمتلك النموذج هنا أي أهلية أو قابلية للتعميم.
هو نموذج يكاد أن يكون خاصا بهما في الزمن الراهن. وهو ليس نموذجا إلا في إطار ثقافة لا تحترم الفرد وحقوقه وحرياته.
الفرد هناك ذائب في المنظومة، ذوبان لا فكاك منه، رسّخته حقب تاريخية متعاقبة، تضافرت كلها لتشكل الطابع الجمعي الخاص لهاتين الأمتين.
تدريجيا، تأخذ السياسة من جديد طابع صراع جيوسياسي عالمي بين أمم وحضارات من بداية هذا القرن، وبداية كل قرن على ما يبدو، مقارنة ببداية القرن الماضي الحربية وصراع رسم خارطة العالم.
المؤشرات عديدة ومتنوعة،
أوضحها تموضعات روسيا والصين. نستعير هنا جملة كتبها نيتشه في أواخر القرن التاسع عشر، متنبئاً بالقرن العشرين، جملة تناسب مرة أخرى القرن الذي نعيش مفتتحه الجحيمي منذ عقدين:
"لقد ولّى زمن السياسة الصغيرة:
القرن التالي سيجلب معه الصراع من أجل السيطرة على الأرض، الإرغام على السياسة الكبيرة".
صراع بين الأمم للسيطرة على الأرض وليس من أجل الأنسنة والديمقراطية.
ربما لن نشهد اجتياحا روسيا لأوكرانيا، لا الأربعاء القادم ولا في المدى المنظور، بالصورة التي روّجها الإعلام الغربي، ولكن المواجهة بدأت ويرتفع رتمها باستمرار.
الفترات الانتقالية في تاريخ العالم تمتد لمدى زمني طويل. انتهى في بداية التسعينات من القرن نظام عالمي استمر عشرات السنين "بدأت بمقتل ولي عهد النمسا في سراييفوا، واندلاع الحرب العالمية الأولى"، غير أن نظاما جديدا لم يتخلّق بعد حتى اليوم.
حضارة الغرب هي حقيقة العالم منذ عدة قرون، وليس ثمة حقائق كافية تقول بغير ذلك، لكن لروسيا والصين ملامح تزداد وضوحا تحت سطح هذه الحضارة الغربية الطافية على العالم، وسيكون لهما كلمتاهما مستقبلا لتعديل مسار الغرب، تحفيزه وإجباره على إعادة النظر في نظام هيمنة عالمي بدأت علامات هشاشته وإخفاقاته تظهر واحدة بعد الأخرى.