مقالات

"طائر الأشجان"

08/01/2024, 06:24:32

كل حياة، كل تجربة، فانية ويطويها النسيان، إن لم يلتقطها الفنان ويمنحها تذكرة مرور إلى الخلود.

تجربة الشاعر والفنان هي مثال يراها كثيرون نموذجاً لهم، وتعبيراً عنهم، يستوي في ذلك من مروا بتجارب مشابهة، ومن عاشوها بحُلمهم، وتمثلوها بالخيال. 

الفن صِلة وصل لإقامة صلة بين كائنين، وبين الإنسان والوجود من حوله، كما أنه عالم افتراضي بديل وشفاف يتسع لحنين المحبين، وشغف الحالمين بعالم آخر يحررهم من واقعهم الجامد وروتينية الحياة وقسوتها. 

كل ما له صِلة بالحياة مصيره الفناء، في حين أن الفن -بجميع صوره "موسيقى، وأغانٍ، ولوحات، وأدب، وشعر"- ذو جوهر أسمى من الحياة، ويبلور أجمل ما فيها، وبالتالي أسمى من الموت، ومتجاوز له.

أحمد الجابري كان فناناً رفيعاً وأصيلاً، ومن المقام الرفيع من فن يمنح الخلود لكل ما تلامسه كلماته وأوتاره. 

قلت أوتاره؟ نعم. عندما يكتب الجابري قصيدة جديدة، كان يبحث عن نغمة الأرض، نغمة الناس، نغمة الحب. كل فن رفيع -"شعر، موسيقى، أغنية لوحة "- هو محاولة لإلتقاط نغمة قريبة من النغمة الكلية للأرض، النغمة الكلية للكون. 

ألم يقل فيثاغورس إن "الكون نغم ووتر"، وجاءت نظرية الأوتار في الفيزياء الحديثة بعده بأكثر من ألفي عام؛ لتحول مقولته الفلسفية إلى اكتشاف علمي مُبهِر يصوّر الكون كمعزوفة لا نهائية من تناغم الأوتار ورنينها، وكأنه أغنية عُظمى تُعزف كل لحظة. 

فرادة القصيدة، أو الأغنية عند المبدع الجابري تنهل من هذه المعزوفة الكونية. 

قصائد الجابري المُغناة تُقاس باقترابها من نغمة عميقة تلامس أحاسيس وتجارب. نغمة يُلتَقط ترددها في قلب مُحب، إنسان يتألم، فرح يتوهّج يجد فيها تعبيراً عنه كأنها كُتبت لأجله.  

بين راهدة تعز وعدن نشأ الشاعر أحمد الجابري، وكُبر حسّه بالحياة. مزج بين تعز وعدن ولحج، وأجاد لاحقاً ترجمة أحاسيسه في قصائد مُغناة غدت نموذجاً للأغنية بأنماطها الثلاثة؛ التعزية والعدنية واللحجية. 

الشغف وحدهُ يمكن الشاعر من التقاط النغمة المناسبة. اهتمام جارف يصل إلى حد الانجذاب نحو شخص ما، حبيبة، فكرة، قضية، والتماهي معها. 

تجربة حية تعمل هنا خلفية للكلمة والقصيدة والنغمة الغنائية المتكاملة معها. 

الراحل الكبير أحمد الجابري من هذا النوع المتفرد في إبداع الشعر الغنائي.

في مقام واحد يقف الجابري بجانب نُخبة متميزة من شعراء القصيدة الغنائية اليمنية في القرن العشرين؛ أسماؤهم محفوظة في وجدان الناس وذاكرتهم: عبدالله عبدالوهاب نعمان "الفضول"، حسين المحضار، مطهر الإرياني، القمندان، علي صبرة، عبدالله هادي سبيت، سلطان الصريمي، سعيد شيباني، إبراهيم صادق، عبدالله غدوة عباس المطاع، عثمان أبو ماهر، وآخرون لا يتسع المقال لذكرهم. 

تميز هؤلاء الشعراء بفرادة شخصية تنطوي على موهبة ممتزجة بالتجربة الثرية، وبحضور تواصلي إبداعي مع الحياة والناس والكائنات من حولهم.  

ليسوا أساطير ولا سحرة. كل ما في الأمر أنهم عاشوا حياة ثرية وخصبة في ذواتهم وأحاسيسهم وشعورهم التواصلي بمجتمعهم وناسهم، وامتلكوا القدرة على تكثيف التجربة الخاصة الأصيلة، وعلاقة الشاعر بذاته، وبما حوله. 

التجربة، بجميع أبعادها الجوانية والشخصية والموضوعية، شرط أولي للإبداع يسبق الإجادة في التعبير عنها وتحويلها إلى قصائد شعرية، غنائية في موضوعنا. 

معظم شعراء الأغنية الجُدد يعوزهم التجربة، يفتقدون هذا البناء الذاتي. 

فقدان التواصل مع الذات، وفقدان التواصل مع الكائنات، يحيل إلى فقدان التواصل مع الكلمات. 

كان الشاعر أحمد الجابري إنسانا بسيطا وجميلا يفيض بالمحبة والجمال، ويعيش بعيدا عن الكاميرات والأضواء. لا يعرفه كثيرون، لكن موجات الجمال والفن والمحبة تعرفه وتزهو بكلماته. 

درس في مصر الخمسينات وأوائل الستينات؛ ضمن جيل تفتَّح وعيه في زمن الثورات والاستقلال والتحرر الوطني. جيل خرج منه أدباء وأساتذة جامعات، شعراء وأدباء وقادة أحزاب، سياسيون ومثقفون.

تخصص أحمد الجابري في الاقتصاد، وعمل لاحقاً في عدن وتعز، واغترب في السعودية، وكان الشعر موهبته التي لم يتفرغ لها، مثل شعراء كبار في تاريخ الشعر والأدب عبر العالم، تدفقت الكتابة الإبداعية عبرهم كأنها حالة طبيعية لا تحتاج تفرغاً ولا تكلفاً.

نقش الجابري اسمه في مُتن الفن والشعر الغنائي اليمني. غنى من كلماته أبرز فناني اليمن: أيوب طارش، محمد مرشد ناجي، محمد سعد عبدالله، عبدالرب إدريس، أحمد بن أحمد قاسم، محمد محسن عطروش، كرامة مرسال، وعبدالباسط عبسي، محمد صالح حمدون، وآخرون. 

الجابري، وتنوّع شعره الغنائي، وثراؤه، وتجربته الاستثنائية في كتابة الشعر الغنائي، يمثل مادة خصبة للكتابة، لا المقالات فحسب، بل ومجال للدراسات والأبحاث في الجامعات والمراكز البحثية والفنية. تاريخ الشعر الغنائي والفن في اليمن يُدْرس، أو هكذا ينبغي له، من خلال مبدعيه ورموزه الفارقة.  

بلغ أحمد الجابري من إجادة التعبير عن الحُب وأشجان المحبين، أن يقول له شاعر بقامة الفضول إنه تمنى لو أنه هو من كتب كلمات أغنية "ضاعت الأيام".. مثل هكذا قصيدة لا تُكتب إلا بنبض القلب. يتماهى الجابري في هذه الأغنية مع كل كلمة وكأنها عزفت روحه، وعرفته بها. هذه الأغنية اُلتقطت النابض والمحرك الأساس في شخصية الجابري. 

يقول فرناندو بيسوا: ثمة عبارات عفوية عميقة؛ لأنها تأتي من الأعمق، مُعرفةً إنساناً ما، أو بالأحرى هي التي يتعرف بها صاحبها، بدون سعي منه. 

لعل "طائر الأشجان" هي هذه الجملة  المُعرِّفة بالشاعر أحمد الجابري، وكان الأنسب أن تكون عنواناً لهذه القصيدة  الأغنية بدلاً من عنوانها الذي عُرفت به "ضاعت الأيام"، بل إنها أقرب اسم يمكن أن يُطلق ليُعرف شخصية الجابري وسمته الأساسية. 

كلما نظرت في قائمة قصائده المُغناة أجدني مرتبكاً عماذا أتحدث. كل "أغانيه"  متميزة، وكل واحدة منها لها قصة تستحق أن تروى، غير أن مقالاً واحداً لا يكفي للمرور عليها. 

سأكتفى بواحدة أخرى من أبرز قصائده العذبة غناها الفنان محمد مرشد ناجي، أغنية  "يا غارة الله منه".. هذه قصيدة كتبها الجابري بلهجة صنعانية أنيقة وآخاذة. 

هو لم يكتب القصيدة، هو عاشها أولاً، ثم كتبها، فقصيدة مثل هذه لا تُكتب قبل أن تُعاش. 

هي قصيدة نظمها الشاعر الجابري، ولحنها الفنان المرشدي؛ لتكون أغنية على النمط الصنعاني، الذي كان محمد مرشد ناجي أحد رواده المجددين. أغنية تم نسجها بطريقة حديثة وجديدة. 

بدأ محمد مرشد ناجي بغنائها على الموسيقى منتصف السبعينات، في حفلة جماهيرية لا زال تسجيلها النادر محتفظاً بزخمه وحيويته كاملة. 

لاحقاً، أداها المرشدي على العود نهاية الثمانينات، وأعاد تسجيلها بداية التسعينات في التلفزيون اليمني بأسلوبه العذب، وعزفه الذي لا يجيده أحدٌ سواه. 

عاش الجابري سبعين عاماً قبل أن يصدر ديوانه مؤخراً قبل وفاته بعام واحد تقريبا. 

إصدار تأخر كثيراً، لكنه مهم من باب التوثيق، أما ديوانه الكبير فهو في وجدان جيل تلمس أحاسيسه على وقع كلمات أغانيه التي غدت جزءاً من ذاكرة أجيال تتكرر على مسامعها بأصوات أبرز فناني اليمن. 

رحل الشاعر أحمد الجابري، لكن حياة أخرى جديدة له بدأت من لحظة موته.. حياة الشاعر الفنان تبدأ من لحظة موته. 

رحل أحمد الجابري بجسده بعد عمر حافل كان فيه واحدا من نجوم الشعر الغنائي اليمني. نقش اسمه في حيوات كثيرة، ولمع في تاريخ بلاد سيبقى واحداً ممن عبروا عن مكنونها العميق، شجنها، توقها للحياة، وارتجافات أشواقها. 

رحل الجابري، ولكنه معنا، ولن يأفُل نجمه.  

سيبقى حياً مع كل نغمة يتردد صداها في كل قلب يلتقط ترددها الآسر. 

خلف الكلمات والنغمات والأوتار، سيبقى طيف الجابري بهياً ومحلقاً ونقياً ومتماهياً مع أجمل ما في الحياة من أحاسيس ومحبة.

مقالات

أبو الروتي ( 10)

في أول يومٍ أذهبُ فيه إلى المدرسة (المعهد العلمي الإسلامي).. وفيما كنتُ أعبرُ بجوار السوق المركزي، وانعطفُ يساراً باتجاه "مدرسة السّيْلة" الابتدائية، شاهدت خمسة أطفالٍ شياطين يخرجون من الشارع الموازي للسوق المركزي؛ أربعة منهم بنفس عمري، وخامسهم أكبر مني، ومن أصحابه الأربعة، وكانوا جميعهم يشترون الرّوتي من فُرن الحاج، ويرونني هناك، لكن كبيرهم كان أول من لفت انتباههم إلى وجودي، وأول من صاح قائلا، وهو يشير إليَّ:

نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) خاصة بنا. بمواصلة تصفحك لموقعنا فإنك توافق على استخدام ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) وعلى سياسة الخصوصية.