مقالات

عالم عبدالرحمن بجاش.. رواية متقدة للانبهار والدهشة

29/05/2021, 08:02:07
المصدر : خاص

من الصفحات الأولى لكتاب عبدالرحمن بجاش (لغلغي في صنعاء)، تحسّ بأنك تسافر عبر الزمن عائداً إلى سنوات ميلاد اليمن الجديد وشبابها، بدايةً من فاتحة الجمهورية وثورتها السبتمبرية أوائل الستينات من القرن الماضي، وما ترتّب عنها من انبعاثات وطموحات وآمال، أحيت اليمن بعد موتها الطويل. 

انفصلت عن العالم في أول ساعة دخلت فيها في 'عالم عبدالرحمن بجاش' في الصفحات المئة الأولى من هذا الكتاب، الذي انتقلت إليه قادماً من "حافة إسحاق"، وهو عالم آخر رسمه الكاتب لمدينة تعز. 

إنها كتابة تستقي التاريخ من صدور الناس البسطاء لا من الواجهات الرسمية الزائفة. كتابة تفتح الصفحة الأكثر تلقائية ونقاءً في أعماقنا. 

شخصية الكاتب هي كتابه الأول في الحياة، مثلما هي اللوحة الأولى للفنان، والقصيدة الأولى للشاعر. 

لذا سأبدأ بالكتاب الأول "شخصية عبدالرحمن بجاش" كإنسان، وهو الكتاب المؤسس لكل ما عاشه وكتبه، وصولا إلى كتابيه "حافة إسحاق" و"لغلغي في صنعاء".  

إحساس بجاش مقياس جمعي لأجمل ما فينا، وعيونه ليست سوى عدستين لحياة تجمعنا كلنا في إحساس مكثف يُنقَل إلى ذهن متقد في رأس صحفي وكاتب حميم يكتب بشجنه وحنينه، وهو قبل ذلك إنسان نادر وأصيل لم تهزمه ميكانيكية الحياة، واستمر قابضاً على جمر محبته للناس وألفته بالبشر والأماكن والمدن، لكأنّه يأبى إلاّ يتجاوز مد جسور المحبة مع الناس إلى نسجها مع الأماكن بحافاتها وشوارعها ومدنها.

إحساس شفاف يخرج على الملأ بصيغة كتابة تجمع الحس الوجداني بالخِبرة الشخصية بالنّاس والأماكن، وكل ذلك ممزوج بثقافة لا تدّعي ولا تحاول التمظهر الكاذب بالمصطلحات والجملة السياسية الشائهة.

عبدالرحمن بجاش هو المحبّة. المحبة هنا ليست حالة طارئة تنمذج في هيامات زائفة.

كما أنها ليست سرديات روائية متخيّلة. المحبة هنا طبع. المحبة هنا طبيعة ثانية. وإن لم تكن المحبة طبعا ثانيا في شخصية عبدالرحمن بجاش، فهي من سوف تتجسّد ونتعرف عليها كإسم لا يتوه عنه الناس، ولا تعوزهم البديهة لمعرفته حتى لو وُضع بين ألف من الكُتاب والصحفيين!! 

يحدث أن تمرّ على أشخاص عديدين وأشياء كثيرة ولا تعرفها لأول وهلة. 

يحدث أن تسمع أغنية لأيوب -مثلاً- أعواماً كثيرة، وفجأة تسمعها كأنك تكتشفها، كأن لا أحد يعرفها سواك. 

ويحدث أن تمرّ على كاتب وصحفي متميّز، وتغفل عن جماله وروح المحبّة الفائضة منه. ربما لأنه مثل الأكسجين، تراه طبيعيا ولا تنتبه لما يحويه من دفق حياة. وربّما لأنك كنت مستغرقاً في اهتمامات وانشغالات تأخذك منك. ربما، وربما، وربما، لكن الكُتّاب المُشعّين بالمحبة والود، مثل عبدالرحمن بجاش، يبقون موجودين في الحياة، وتحتاج إلى أن تضبط ترددات روحك على الترددات التي يبثون منها كي تحدق في أعماقهم، وتصل إلى مكنوناتهم. 

ماذا عن تعز وصنعاء، أو لنقل كتابيه: "حافة إسحاق" و"لغلغي في صنعاء"؟!

لا أعرض كُتباً هنا، وإنما أحاول أن ألتقط الروح التي مثّل هاذان الكتابان علامتين عليها، وأثراً مما تركه مرورها في الحياة، فيمن الستينات والسبعينات هو وهج هذه البلاد وشبابها. تجلى هذا الدفق بثورة وجمهورية في صنعاء ومثلها في عدن، وأحزاب وتيارات، مثلما التمع كأناشيد وجيل من الفنانين: طلبة وحزبيين، أحزاب وتيارات، مثقفين ورجال أعمال. 

كانت الجمهورية هي الزمن الجديد، وهي القابلة التي وُلدت بين يديها اليمن بكل مفرداتها. 

من تعز جاء عبدالرحمن بجاش، وفي مدينتها تفتح وعيه على العالم الجديد في عيني طفل، هما التلخيص الأنسب للانبهار والدّهشة. في عالم تعز الأول وُلد وعي بجاش بالحياة من حوله، ومنها جاء ومعه كثيرون بلا عدد، كانوا أجمل تجليات تعز الستينات والسبعينات. لنقل إنه تناغم جمالي، هذا اللقاء بين أرواح متّقدة تبحث عن اكتشاف العالم وارتياد آفاقه: صحافة وكتابة وفنون وهندسة وعلوم وعسكرة وتجارة وسياسة وأحزاب وتيارات، ومدينة تُدعى تعز، كانت منصة إطلاق مناسبة لجيل كامل تلمس روحها وارتاد العالم حاملاً دفئها وسرّ الحياة الكامن فيها، وقد تشرّبه من أعماقها.

هي مدينة سكنها الحُلم والثورة والتوق لكسر المألوف والثابت، وما استقر في حياة خنقتها الإمامة، وما فرضته من قهر وأنماط وجود. 

رغم خفوت روحها، والتغييرات الناشزة في وجه تعز الثمانينات، في العمارة والعلاقات وسلوك الناس الواقعين تحت ثقل نسق جديد مفروض عليهم، إلا أن تعز بقيت محافظة على شيء "منها" حتى نهاية الثمانينات، وعاشت فترة فاصلة بين موات نهاية الثمانينات، والزيف الكامل بعد منتصف التسعينات. كانت تلك هي ربيع اليمن في بداية الوحدة وانتقاليتها في سنوات ثلاث، شهدت صعود الأمل، أمل تكثفت فيه تطلعات ثلاثة عقود من الثورة، وما تخللها من دفقات وتوهجات، لكنه - للأسف- كان الاكتمال الذي ما بعده إلا النقصان!  

بعد تعز، كانت صنعاء، وما أدراك ما صنعاء. صنعاء ليست إلا "الروح" التي قدمت إليها من كل اليمن مع أول شهقة ميلاد عرفتها المدينة صبيحة السادس والعشرين من سبتمبر 1962. الجمهورية ليست سياسة ونظاما جديدا فحسب، إنها عالم كامل وجد نفسه يخطو من اليوم التالي ليبث الحياة خارج الأسوار، ويحيي ما بقي داخلها. 

لم يأتِ أحد إلى صنعاء جاهزة، حتى يكونوا غرباء فيها. لقد جلبوا "صنعاء" معهم. صنعاء المرسومة في وجدانهم وخرائط عيونهم، ترجموها إلى جمهورية وعالم جديد، وطلبة ومدارس، وشوارع ومبانٍ وفنادق وسينمات، أفران وعطور وملابس، مقاهٍ ومطاعم، بنوك ووكالات تجارية ومحال، عمّال وتجار، حزبيين ومثقفين. 

لقد جاءت صنعاء من مدينة تعز وقُراها، وجاءت من عدن. جاءت من إب والحديدة، ومن كل قرية في اليمن. جاءت الحياة إلى صنعاء، ولم يأتِ أحدٌ ليلتمس الحياة منها. هم من جلبوا الحياة معهم، وأحيوا بها صنعاء، واتخذوا منها مدينة يستمدون الحياة منها، بعد أن بذروها ببذور حياة جعلت منها قُبلة لليمن، تجذب كل يمني ينتوي بدء خطواته الأولى في ارتياد آفاق الحياة.    

لا أكتب هنا عمّا سرده بجاش في كتابه: من أناس وأماكن وأحياء وآمال وأعمال ومؤسسين في شتى مناحي الحياة الجديدة.

أنا هنا أحاول أن أخط شيئاً من خواطر لا حصر لها، استدعتها صفحات هذا الكتاب الذي يخبِّئ بين سطوره أكثر مما يُفصح. كتاب يُوحي أكثر، يكشف. كتاب ينكز ذاكرتك وآلاف الانطباعات التي مرّت من ذهنك، حتى لو لم تكن معاصرا لعقدي الستينات والسبعينات. 

هذان الكتابان يلامسا المستور الذي لم يُعرض بعد، ويُحلَل، ويُغربل، ويُدرس بما فيه الكفاية. بطريقة سرد الأسماء والأماكن، والإطلال على حيوات البشر العاديين المؤسسين لليمن الجديد، وإن برؤوس الأقلام دون غوص كافٍ، يضعنا بجاش أمام حياة حقيقية قذف بها الذئاب والغيلان -لاحقاً- إلى الهامش، بل وسُحِقت على مراحل، سُحِقت بالطائفية والعصبيات وحقد القرون، ليحل محلها "اليمنيون الجدد" الذين تناموا واستفحلت نغمتهم حتى الوصول بالبلاد كلها إلى البرزخ الجحيمي الرابضة فيه اليوم. 

عرض كتابي بجاش يحتاج ما هو أكثر من مقال عابر. وتدوين ما أثاره من انطباعات، وما استدعاه من أفكار وأحاسيس وآراء، يحتاج بدوره إلى وضع تاريخنا المعاصر كلّه على طاولة التفكير والكتابة. استدعاء التاريخ هنا يتم من داخل صدور الناس العاديين صُناع اليمن الجديد، لا ممّا قالته الإذاعات ونشرات الأخبار. تاريخ اليمن الحقيقي للناس الذين عاشوا يمدون الحياة بأسباب استمراريتها وازدهارها دون أن يسمع بهم أحد، ومات معظمهم في الهامش دون أن ينعيهم أحد، ودون أن تظهر أسماؤهم في برقيات التعازي ونشرات الأخبار وواجهات الصّحف.

مقالات

أبو الروتي ( 10)

في أول يومٍ أذهبُ فيه إلى المدرسة (المعهد العلمي الإسلامي).. وفيما كنتُ أعبرُ بجوار السوق المركزي، وانعطفُ يساراً باتجاه "مدرسة السّيْلة" الابتدائية، شاهدت خمسة أطفالٍ شياطين يخرجون من الشارع الموازي للسوق المركزي؛ أربعة منهم بنفس عمري، وخامسهم أكبر مني، ومن أصحابه الأربعة، وكانوا جميعهم يشترون الرّوتي من فُرن الحاج، ويرونني هناك، لكن كبيرهم كان أول من لفت انتباههم إلى وجودي، وأول من صاح قائلا، وهو يشير إليَّ:

نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) خاصة بنا. بمواصلة تصفحك لموقعنا فإنك توافق على استخدام ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) وعلى سياسة الخصوصية.