مقالات

عالم ما بعد الإنسانية!

06/12/2023, 06:14:07

بات واضحاً أن العالم قد دخل مرحلة ما بعد الإنسانية. يكفي أن تقرأ تصريح مثل هذا لتدرك إلى أين يتجه العالم:

"قالت خارجية أمريكا إنها لم تجد أي أدلة على تعمد إسرائيل قتل المدنيين، وأنها لا تعتبر ما تقوم به في غزة إبادة جماعية".

لا يرى المرء إلا ما يريد أن يراه. هذا أيضاً حال أمريكا وعيونها الصهيونية أمام محرقة غزة المنقولة على شاشات البث المباشر يوميا. حرب إبادة جماعية هدمت غزة وشردت سكانها، ويقترب عدد ضحاياها من حاجز العشرين ألف شهيد، أغلبهم أطفال ونساء، لم ترها عيون أمريكا. 

ما يحاول قوله هذا التصريح هو أن العالم دخل مرحلة ما بعد الحقيقة. تصريح يتوهم قدرة آلة دولته على التضليل وقلب الضحية إلى جانٍ والجاني إلى ضحية. 

توسع استخدام مصطلح "ما بعد الحقيقة"، في العقد الماضي، بالتزامن مع ما قدمته التكنولوجيا الحديثة المستخدمة في الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي والقنوات الفضائية، التي اُستخدمت للتضليل وخلط الحقائق بالأكاذيب، وبرعت فيها دول كبرى وأنظمة استبدادية، وجماعات مسلحة، ومنظومات دعائية إقليمية وعالمية. 

التضليل وخلط الحقائق بالأكاذيب يمكن أن ينجح في ساحات أخرى، لكن ليس في فلسطين. 

حرب الإبادة الجماعية في غزة حقيقة تفقأ العين. حقيقة تنبأنا أن البشرية تمضي نحو مرحلة عنوانها "عالم ما بعد الإنسانية".

القضية الفلسطينية عصية على التضليل، ومن غير الممكن تمرير حرب الإبادة على غزة تحت عناوين أخرى مضللة؛ مثل الإرهاب، الذي اُستُخدِم بكثافة في تمويه حروب قذرة ضد العرب وشعوبهم وثوراتهم الشعبية، لعلَّ أكثرها فداحة ما تعرّض له الشعب السوري من حرب عالمية في مواجهة ثورته الشعبية عام 2011.    

العدو واضح في فلسطين، والقضية عادلة وأوضح من أن تحتاج إلى شروحات وإثباتات. 

يعود ذلك إلى أن تاريخ هذه القضية العادلة يمتد بطول الحُقبة العالمية، التي بدأت بعد الحرب العالمية الثانية.

في كل مراحلها المتعاقبة كانت القضية الفلسطينية تحت المجهر العالمي؛ حروب الكيان ومجازرهُ المتوالية، التوسع في المستوطنات والحصار والتجويع والاغتيالات والاعتقالات، المفاوضات والمؤتمرات والقرارات الدولية؛ كل ما حدث جعل فلسطين وقضيتها جزءا من الذاكرة العالمية. 

وُلد الكيان المحتل ليكون رأس حربة للنظام الغربي المهيمن، ونقطة تماس حادة ومباشرة مع العالم العربي، هذا الملمح واحد من جملة أسباب أعاقت ماكينة التضليل الجديدة عن تزييف الصورة في قضية أوضح ما فيها عدالتها. 

أمام قضية عادلة كهذه، يكون التخاذل والفرجة على فصل الإبادة الأخير في غزة، إعلانا عن انكشاف تام للضمير العالمي، ودخول العالم عصر "ما بعد الإنسانية"،

لا اسم آخر لعالم يتفرج على حرب إبادة تُبث على الشاشات الفضائية، وقد تحولت فيها حياة سكان غزة إلى مسلسل يومي يعرض أشلاء الأطفال والنساء، تمزِّقها أسلحة فتاكة تلقي عليهم حممها من الجو، وتطال كل شيء في حياتهم؛ البشر والحجر، العائلات والبيوت، ولا تستثني مدرسة ولا مستشفى، ولا تُفرق بين مدني ومقاتل. 

في بداية الحرب كان حديث الرأي العام العربي مهموما ومصدوما بدعم الغرب لهذه الحرب، وكذلك تواطؤ الإعلام الغربي وانكشافه التام، وما ظهر من نزعات كراهية عنصرية في خطاب غربي تصدرته أمريكا وبريطانيا، وعاكسته مواقف رسمية أخرى؛ أهمها جاءت من أسبانيا، وإيرلندا وأسكتلندا. 

تغيّرت الصورة كثيرا مع استمرار الحرب. 

ويمكننا أن نقول اليوم إن مواقف العالم العربي قد خذلت الفلسطينيين. وإن العرب وقفوا متفرجين على الطائرات تُحرِق أهلهم في غزة، وتهدم ببوتهم وتشردهم، في لحظة تستدعي منهم عمل شيء تلزمهم به إنسانيتهم قبل أن يستدعيه واجب التضامن مع شعب عربي شقيق يقف في مواجهة حرب إبادة تشارك فيها أمريكا، وتدعمها أغلب الدول الغربية. 

التظاهرات الرافضة للحرب، والمتضامنة مع الفلسطينيين، في المجتمعات الغربية تفوق كثيرا مستوى التضامن الجماهيري في البلدان العربية. 

الرأي العام الشعبي والجماهيري هناك يتصدر الفعل التضامني زخما وتأثيرا.

موقف الدول الغربية في معظمه تنكّر للإنسانية وحقوق الإنسان، وكل القوانين الإنسانية؛ لكن ذلك أمر آخر ويمضي في اتجاه عكسي لموقف الجماهير في تلك المجتمعات. 

مهم إدراك ذلك حتى لا يبالغ الدوغمائيون في التأكيس على الآخر؛ متناسين أن شعوبنا العربية الإسلامية، التي تجمعها روابط الأخوة والانتماء والدين مع الشعب الفلسطيني؛ لم تتضامن وتقف بمستوى ما يتطلبه انتماؤها الإنساني؛ بمعزل حتى عن واجب الانتماء لأمة واحدة؛ ثقافةً وتاريخاً، جغرافيا وعقيدة، ومصير مشترك. 

نقول إن الغرب الرسمي موقفه صادم، لا بسبب المراهنة عليه، ولكن لأن دول ديمقراطية بنت خطاباتها -خلال عشرات السنين- على مقولات حقوق الإنسان، واحترام القانون الإنساني الدولي، والمواثيق والاتفاقيات الدولية حول الحرب، قد أنكرت ذلك كله، بل وشاركت من خلال تأييد ودعم حرب الإبادة الإسرائيلية في غزة. 

مع ذلك، وحتى في قياس التشابهات بين مواقف الدول والأنظمة، لدينا نظام رسمي عربي هو أكثر تحللا من الموقف الإنساني والأخلاقي، والقومي في حالته العربية. الحكام العرب ما بين دول مهشمة بسبب حروب الثورات المضادة، ودول مهمّشة بسبب تبعية حكامها، وتماهيههم مع استعمار جديد يحركهم عن بُعد، ويهيئ المنطقة العربية كلها، عبرهم وبمشاركتهم، لتكون قاعا صفصفا أمام جندي الغرب في الشرق الأوسط. 

التخاذل العربي الرسمي تقوده كيانات مشلولة وتابعة، طبعت مجانا مع إسرائيل، ولم تعمل شيئا لإيقاف حرب الإبادة، وستدفع ثمنا فادحا، لو نجح الكيان الاستيطاني في تهجير فلسطينيي غزة. 

عندما يتخاذل حكام السعودية ومصر في حرب تصفية القضية الفلسطينية، وأبعد من ذلك يشاركون فيها ضمنيا بمواقفهم المتواطئة، فإنهم بذلك يفرطون بأمنهم القومي، ومصلحة بلديهم. 

الخذلان العربي يتعدى -في هذه الحرب- مواقف الأنظمة والدول. بموازاتها، وتماشيا معها تتحرك لوبيات إعلامية وكانتونات ثقافية تقدم صورة فاجعة عن حجم الاختراق في الوسط الثقافي والإعلامي العربي. 

في مستوى آخر للتضليل، وحروب الثورات المضادة للعرب، نجد أن أغلب الواقفين ضد غزة بمبرر أولوية الموقف من الظلم الداخلي؛ كانوا ضد ثورات العرب السلمية الشعبية، ويرونها نكبة وكارثة، ويحملونها مسؤولية حروب الأنظمة الساقطة، وحلفائها الداخليين والخارجيين.

أي أنهم في العمق ضد الحرية والعدالة في الداخل والخارج. 

من له موقف حقيقي من حروب الأنطمة والجماعات المتسلطة في الداخل العربي، سيكون بالضرورة مع الشعب الفلسطيني وقضيته. 

لا تناقض أبداً هنا. بالعكس؛ هذا اتساق أخلاقي وقيمي وإنساني. 

الموقف من القضايا لا يتحدد بقياسات بائسة تعادي قضية عادلة؛ لأن مقاومتها بقيادة حماس، أو لأن خصومه يعلنون وقوفهم في صفها، لا يهم كم نسبة الحقيقة من المناورة في تلك المواقف. 

الموقف من قضية ما يتحدد بعدالتها لا بهوية من يناصرها. 

مثل أي قضية، لا يقف المتضامون مع القضية الفلسطينية على أرضية واحدة، سياسية وقيمية. ولا يستدعي هذا التباين في المنطلقات أن يتخذ المرء موقفا سلبيا من قضية عادلة؛ لأن خصمه، دولة أو جماعة أو فرد، يقف في الجهة نفسها بجانبه. 

من أي زاوية نظرنا إليها، فإن هذه الحرب تمس إنسانية كل البشر. تُضرب كل القيم الإنسانية مع كل قنبلة تسقط فوق غزة. الحس السليم أمام حرب إبادة كهذه هو أن تكون إنسانا في هذه اللحظة. أن تتحسس إنسانيتك أمام جحيم فوسفوري يلتهم أجساد الأطفال والنساء والبشر والحجر في غزة. تتحسس إنسانيتك في "عالم ما بعد الإنسانية!".

مقالات

أبو الروتي (3)

(لحظة انطلقت بنا السيارة شعرت بأنّي كبرتُ، ولم أعد طفلا) فيما رحت أتقدّم باتجاه بيت جدي علي إسماعيل، تذكّرت كلام جدتي، وهي تودّعني عند مشارف القرية، وتقول لي:

مقالات

المساندة لكيان الاحتلال والأكفان لفلسطين!

منذ البدء؛ اختارت الكثير من الأنظمة العربية توزيع الأكفان في غزة. كان ذلك يختصر كل شيء: نتنياهو مطلق اليد، يتولى ذبح الفلسطينيين، بينما ستحرص هذه الأنظمة على أن يكون تكفين الضحايا عربياً خالصاً!

نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) خاصة بنا. بمواصلة تصفحك لموقعنا فإنك توافق على استخدام ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) وعلى سياسة الخصوصية.