مقالات

عن شعر يمني جدد الأدب العربي

04/11/2024, 07:01:31

كان شعر العامية اليمنية في زمن الدولة الرسولية والطاهرية، وتحديداً الشعر الحميني الذي اكتمل كلَونٍ جديد، ثورة تجديدية في الأدب العربي، في رأي الدكتور عبدالعزيز المقالح.

العامية هنا هي الفصحى اليمنية المفارقة للفصحى العربية الشمالية، التي وقعت في الجمود، وأصبحت لغة رسمية مهيمنة ينطق بها شعراء مفارقون لنبض الناس وحياتهم اليومية.

شاعر الفصحى، قبل الموشحات، كان يعيش في عالم ضيق؛ هو عالم البيت والقافية الواحدة، هذا الذي يرى الدكتور شكري عياد أنه قد ظل يدور فيه قروَناً طويلة، واصفاً محاولته المستمرة للتجديد بأنها مثل من يصب خمراً جديدة في الآنية القديمة، فيجد نفسه مضطرا لأن يحذف الكثير، ويحول القصيدة إلى معانٍ جزئية تفتقر إلى الوحدة، وتتسم بالوضوح المسرف الذي يتطلب اكتفاء البيت بنفسه.

في بحثه القيِّم حول شعر العامية في اليمن "الشعر الحميني"، كان الدكتور عبدالعزيز المقالح هو الأكثر إجادة في الدراسة الأدبية لهذا الشعر، وإبانة خصائصه الفنية الإبداعية التي مكّنته من تجاوز القصيدة الفصحى وأوزانها والتفوّق عليها بالمعيار الفني.

"شعر العامية في اليمن" هو عنوان هذه الدراسة، البالغ عدد صفحاتها 492 صفحة، ونال عنها درجة الدكتوراة من جامعة عين شمس في القاهرة عام 1979.

أجاد المقالح التجوال بحُرية في تاريخ شعر غنائي يمني متميّز، وأظهر قدرته على دراسته وتوصيف شكله الفني وتركيبته الأدبية المتميّزة، حين كان ذلك العنوان موضع بحث ورسائل دكتوراة وكتابات واهتمامات عامة في اليمن في عقدي الستينات والسبعينات من القرن الماضي.

كانت التسمية غلطة الباحث الفذ، فوجد نفسه -في معظم صفحات الكتاب- يحاول تبريرها، أحياناً بتقويض المفهوم ذاته "العامية"، وإثبات فُصحى اللغة اليمنية، وخطأ توصيفها بالعامية. وفي أحيان أخرى بتوسيع مفهوم العامية وتصنيفه إلى مستويات.

تنويعات بحثية عديدة تقول إن الخصائص الفنية للشعر ليست معطى مسبقا يحدده العنوان، فصيح أو عامي، وإن بين الشعر العامي ما هو أكثر جودة فنياً وبلاغياً من الشعر الفصيح.

يحتوي الكتاب محاور بحثية ثرية وواسعة، لكن القارئ، المهتم بالاطلاع على آراء الدكتور حول الموشح الحميني، سيجد نفسه وهو يتنقل من صفحة إلى أخرى ومن فصل إلى آخر، مشوشاً بالفكرة المركزية المهيمنة على اهتمام الكاتب "مصطلح العامية"، وهو ما أخذ الكثير من جهد الباحث واهتمامه.

لو أن البحث يتناول الشعر العامي بكافة أنواعه لكانت التسمية مناسبة؛ لكن متنه الأساسي هو الشعر الحميني، ودراسته في خصوصيته -كشعر ملحون كُتب للغناء، ويسمى "الموشح الحميني"- هي الإطار المنهجي الملائم.

سأعرض في السطور التالية أفكارا أساسية في كتاب الدكتور عبدالعزيز المقالح "شعر العامية في اليمن"،

وسيكون على القارئ أن يستبدل كلمة "العامي" بمصطلح "الحميني" أينما وردت في هذا السياق.

-الخصائص الفنية معيارٌ للشعر

"ليس كل شعر مكتوب بالفصحى يعتبر عملا إبداعيا"، هذا ما يراه الدكتور المقالح.

في زمن ظهور شعر العامية في اليمن مكتملاً في لون جديد "الشعر الحميني" كانت القصيدة الفصحى الرسمية قد أصابها التقليد والتكرار والجمود، وقد ألحق ذلك ضررا بالغا بمكانة الشاعر وبوظيفته الاجتماعية، فلم يعد حكيم القوم ورائدهم.

كان مسمى "القصيدة الفصحى" يُطلق على نوع رث تقتله الركاكة والإسفاف، أو نوع مصنوع متكلف تثقله المحسِّنات البديعية بما تضفيه من زخارف وتزويق.

العمل، الذي يجعل الشعر يرتقي إلى مستوى أن يكون شعرا بحق في نظر المقالح، هو قدرته على التأثير في المتلقي؛ هذا هو المقياس الحقيقي للجمال الفني. ولن يكون له هذا التأثير إلا إذا أجاد الشعر، وأتقن أدواته الفنية، وكان حاذقا في استخدام هذه الأدوات.

لقد كانت لغة الشعر العامي هي المتنفس الوحيد للتطور اللغوي بعد أن سَدت القواعد النحوية والصرفية الصارمة على لغة الكتابة كل منافذ التطور وسُبل التجديد.

وجاء الشعر العامي "الحميني" ليحقق من خلال الاستعانة بلغة الحديث اليومي مستوىً فنياً جديداً من الشعر له شروطه، التي قد تلتقي مع القصيدة الفصحى، وقد تختلف، وظهر لهذا الشعر من المضامين والأشكال الفنية ما يعد مزيجاً من التأثير بالثقافة الرسمية والشعبية.‎

وتمكن شاعر العامية "الحميني" في مدة زمنية قصيرة من أن يشد إليه انتباه المثقفين والعامة، وأن يعيد للشعر، ولو في نطاق إقليمي محدود، جانبا من وظيفته البائدة، أيام كان الشعراء يملؤون الدنيا ويشغلون الناس.

ويسترسل الدكتور المقالح متحدثاً بإعجاب عن ولادة شعر العامية اليمني "الحميني" في عصر الرسوليين:

"وقد ظهر من بين شعراء العامية من ملأ دنيا اليمن وشغل الناس في ربوع تلك البلاد، وكانت القصيدة العامية ولادة ثانية في تاريخ القصيدة العربية. وأزعم أن شعر العامية في اليمن قد أحرز من المقومات الشعرية ما جعله منافساً خطيراً للفصحى. وحقق الشاعر العامي بالعامية ما لم يحققه زميله شاعر الفصحى في شتى الاتجاهات. وتوفر للموشحات اليمنية غير المعربة من التطور الفني والإبداعي ما لم يتوافر للقصيدة الفصحى في اليمن على مر العصور".

هذا التميّز للشعر العامي اليمني حفّز الدكتور المقالح للقول إن القصيدة العامية كانت "إضافة حقيقية إلى الأدب العربي، فقد فتحت باباً جديدا للإبداع الشعري لا في الشكل فحسب بل في المضمون أيضا. ولم يمتد النفور الذي أبداه شعراء العامية إزاء القواعد النحوية والصرفية إلى القِيم الفنية للقصيدة ولم يتخلَّ هؤلاء الشعراء عن القواعد البلاغة بأنواعها التقليدية كالتشبيه والاستعارة والجناس والطباق، ولكنهم لم ياخذوا منها إلا القليل الذي ساعدهم على خلق الصور الشعرية بعيدا عن التعقيد".

يتطابق وصف الدكتور المقالح للشعر الحميني مع ما كتبه الدكتور جعفر الظفاري، رغم اختلاف منظور الباحثين وأسلوبهما.

كانت قصائد شعراء العامية -في رأي المقالح- أقرب إلى الفطرة، وأكثر صدقا مع النفس، واستطاعوا أن يعيدوا إلى الشعر ما كان قد فقده من تلقائية وصدق شعوري وفني.

واستطاع بعض هؤلاء الشعراء أن يصلوا بشعر العامية إلى درجة عالية بما أظهروه في قصائدهم من صور التعبير التقليدية المبتكرة، وكانوا في أشعارهم العامية - بعكس شعراء الفصحى - أقرب للفطرة وأكثر صدقاً مع النفس، وأكثر اتصالاً بالمشاعر دون إسراف أو مبالغة في تصنع البديع أو افتعاله، واستطاع شعراء العامية -من خلال معايشتهم للناس- أن يسايروا تطور الحياة، وأن يؤكدوا أن من أهَم علامات انحطاط شعر الفصحى الانعزال عن الحياة.

-مستويات اللغة في الشعر العامي

البلاغة هي ما اصطلح على تسميته بالخصائص الفنية، ويرى الباحث أن لا علاقة لها باللغة من حيث هي فصحى أو عامية.

يقول إبن الأثير إن الجهل بالنحو لا يقدم في فصاحة ولا بلاغة، وأن الشاعر لا ينظم شعره وغرضه منه رفع الفاعل ونصب المفعول، وما جرى مجراهما.

ومن هنا، فالعامية اليمنية لم تكن عاجزة عن تحقيق أي وظيفة فنية إذا ما توافر لها الشاعر الذي ينتزعها من اعتياديتها، ويدخل معها في علاقة جدلية من خلال تراكيب جديدة.

والعامية لذلك -عند الدكتور المقالح- قادرة؛ شأنها شأن الفصحى، على التعبير البليغ، وليست فقيرة في المجاز أو الإيحاء أو الرمز، وهي أداة يومية -عند كل إنسان- تنطوي على شحنة وجدانية هائلة.

‏وحين ترتبط هذه اللغة بالتراث الثقافي، ويعاد اكتشافها تكون وسيلة مدهشة لكتابة الأعمال الأدبية على نحو ما ندركه في الموشحات الحمينية، التي تمكن شاعر العامية من نظمها، وكان قادراً على خلق عالمه الفني واللغوي من خلال اللهجة العامية.

وسٍع الباحث دراسته حول شعر العامية اليمني لتشمل العصرين "الوسيط والمعاصر". والمقصود بالعصر الوسيط هو الشعر الحميني في زمن نشأته وتطوره في العصر الرسولي والدولة الطاهرية بعده، وصولاً إلى نهاية القرن التاسع عشر. وأما الفترة المعاصرة فتشمل القرن العشرين بما في ذلك مرحلة ما بعد ثورة سبتمبر 1962 وشعرائها الغنائيين، الذين صنف المقالح بعض قصائدهم ضمن الشعر العامي.

هذا توصيف مختلف عن الإطار الزمني الواضح للشعر الحميني الذي ورد في بحث الدكتور جعفر الظفاري، وكلا البحثين رسالة دكتوراة، المقالح قدمها في جامعة عين شمس في القاهرة، والظفاري في جامعة لندن.

الإطار الزمني عند الظفاري اقتصر على زمن الشعر الحميني في عصر الرسوليين والطاهريين وما بعده، ولم يخلطه بالشعر العامي في القرن العشرين، ولم يجهد نفسه في توصيفه ومقارنته بالموشح الحميني الواضح في نشأته وبنيته وخصائصه وتاريخه ومرحلته الزمنية.

للتخفف من التباس عنوان "العامية" وعلاقته بالموشح الحميني، يقسِّم الدكتور عبدالعزيز المقالح العامية اليمنية في الشعر الحميني في العصر الوسيط إلى ثلاثة مستويات: أولاً: عامية المثقفين، وهي الفصحى غير المُعربة.

ثانياً: شبه العامية، وهي المطعمة بتعابير وألفاظ عامية.

ثالثاً: عامية العامة، وهي العامية الصرف.

المستويان "الأول والثاني" هما ما يندرج تحتهما الشعر الحميني عند الدكتور جعفر الظفاري؛ أي أنه شعر لا يلتزم بالإعراب، ويلجأ إلى التسكين، ويستخدم -بحذر شديد- ألفاظا عامية يمنية معروفة في كل أصقاع اليمن.

ينبّه المقالح إلى أن شعراء العامية لم يأخذوا من لغة الحياة اليومية فقط، بل أخذوا كذلك من لغة المعاجم، ومن لغة الشعراء الذين سبقوهم.

شعراء العامية كان أغلبهم يكتب الشعر الفصيح، وكان لهم دراية بمستويات اللغة، ومعرفة بطرائق استخدامها، تختلف هذه المعرفة كما تختلف طرائق الاستخدام من شاعر عامي إلى آخر، فمنهم من يؤثر الفصحى غير المعربة، ومنهم من تكثر في شعره التعابير والتراكيب الدَّرِاجة، ولا يتردد في استخدام المفردات الدخيلة.

وقد أعطى هذا التنوع في مستويات اللغة لشعر العامية ثراءً لغوياً، ووفّر للشاعر أقصى قدر من الحرية في اختيار ما يراه مناسباً من المفردات، وليس في هذا تأكيد لمبدأ البساطة في الفن فحسب، بل وتأكيد على الدقة في رسم الواقع الشعبي.

أما عامية المرحلة المعاصرة، التي شملها بحث الدكتور المقالح، فقسٍَمها إلى ثلاثة مستويات:

عامية المثقفين، عامية القرية، عامية المدينة.

ولإدراكه أن وضع الشعر العامي المعاصر في سلة واحدة مع شعر العامية في العصرين الرسولي والطاهري، ينطوي على خلط نوعين مختلفين لا تقوى مفردة "العامية" على الجمع بينهما، فقد استدرك ذلك ضمنياً في سياق بحثه، إذ أشار إلى أن الموازنة بين أشعار العامية في المرحلتين بيّنت له أن شعر العامية في المرحلة المعاصرة لم يدركه التطور في مضامينه وأشكاله، فقد قُطِعت الصلة، أو كادت، بين القصيدة العامية والفصحى، وغدا الشعر العامي أكثر ظهورا في القرى، متمثلاً في الأغاني الشعبية، والأشعار القبلية والفلكلور غير المدوّن، وكذلك القصيدة العامية الصرفة في المدن.

-الصورة الشعرية بين الفُصحى والعامية

كان أرسطو، ومن قبله أفلاطون، يوازنان ما بين عمل الشاعر وعمل الرّسام، ثم جاء الجاحظ من بعدهما بقرون ليرى كذلك أن الشعر صناعة وضرب من النسيج، وجنس من التصوّر.

الدكتور عبدالعزيز المقالح يرى أن الصورة الشعرية تقوم على عناصر متعددة؛ تشمل الحواس كلها لا العنصر البصري فحسب، مضافاً إليها الخيال.

اللافت في توصيفه للصورة الشعرية هو تأكيده على قول الناقد غنيمي هلال، أنه ليس من الضروري أن تلتزم الصورة الشعرية بالألفاظ والعبارات المجازية، فقد تكون حقيقية الاستعمال، وتكون مع ذلك دقيقة التصوير، ودالة على خيال خصب.

مدخل كهذا يصل بنا إلى إدراك أن للمستوى العادي والعامي من اللغة القدرة نفسها على التصوير. العبرة هنا بالمتكلم وبقدرته على التعبير الفني، وفهمه طبيعة عملية الإبداع الشعرية.

استناداً على هذا المفهوم للصورة الشعرية، يكشف الدكتور المقالح عن ثراء شعر العامية اليمني "الشعر الحميني"، وهو شعر زاخر بالصورة الشعرية ذات المستوى الفني المتناسب مع عصره ومع ذوق عصره.

وأرى أنه متناسب مع ذوق عصرنا كذلك، كما هو جلي وواضح في قدرته على الاستمرار كقصائد مغناة، تزداد ألقاً كلما تقدّم بها الزمن.

كان شعراء العامية ينفرون من الصنعة والزخرفة البديعية، ويتجنبون الطباق والجناس والاستعارة بأنواعها "البسيط والمعقَّد"، ويلجأون في تكوين الصور إلى التشبيه بمختلف أبعاده؛ لأنه ينسجم مع فلسفتهم الجمالية القائمة على البساطة.

كانت الحياة اليومية مصدر الصورة الشعرية عند عدد من شعراء العامية، وعبّر شعرهم عن تجارب عاطفية وأخلاقية تداخلت فيه الصور بين الوصف والتصوير، وجمع أحيانا بين المجاز والتشبيه.

وأصبح الرمز في القصيدة العامية، كما كان في القصيدة الفصحى، عنصراً من عناصرها الفنية. وهو يتدرج من الرمز اللفظي إلى الرمز الاستعاري فالإشاري حتى يرتقي إلى المعادل الموضوعي، ويصل إلى التعبير غير المباشر عن إحساس الشاعر، أو عن تجربته، وتصوير هذا الإحساس وتجسيده في تعبير معادل بدلاً من الحديث عنه مباشرة، أو وصفه أو الإخبار عنه.

-الموسيقى والتشكيل

شعر العامية، الذي يتحدث الدكتور المقالح عنه في كتابه، ليس بالضرورة ما يكتبه العامة، بل كذلك ما يكتبه أفراد منها أو يُكْتَب بأقلام شعراء يجيدون نَظم الشعر بنوعيه "الفصيح والعامي".

التشكيل، أو أسلوب التعبير، يلعب دوراً رئيسياً في تحديد أبعاد الاختلاف بين شعر العامية والفصحى. ولعلّ أول ما ميَّز بينها، فنياً، هو هذا التنوّع في القوافي والبُحور في القصيدة الحمينية التي تتألف -في أغلب أشكالها- من مقاطع تتنوّع وزناً وقافية.

إن شاعر العامية -وهو يتجنّب القواعد النحوية والصرفية، ثم وهو يستعين بعض المفردات الدارجة، أو يجدد في تشكيل قصيدته- كان همه الأول والأخير أن يكون قادراً على مخاطبة معاصرية بلغتهم التي يتحدثون بها، أو بلغة قريبة منها.

وعندما أبدع الشاعر العامي ما عُرف فيما بعد باسم "الموشحات"، خارجاً بها عن النظام العروضي الذي كان قائماً في عصر الخليل بن أحمد، لم يقصد بصنيعه ذاك الإزراء بشعر الفصحى وأوزانه، بل كان يبحث عن أنغام أخرى وعن مجالات أرحب وأوسع لألحانه التي تتجدد مع تجدد حياته نفسها.

لقد أحدثت الموشحات في الأدب العربي تغيّراً واسعاً في شكل القصيدة العربية، حيث هدمت جانباً من المعمار التقليدي، وهو الجانب القائم على القافية الواحدة، وتساوي الشطرات. فقد استعاض الشكل الجديد عنه بمعمار آخر تتخلله فراغات متعدة ومساحات بيضاء واسعة بين ما يسمى بالمطلع والبيت والإقفال.

وقد رافق هذا التغيير في الشكل تغيّر موازي في الموسيقى، حيث تتداخل في المعمار الجديد البحور الطويلة بالقصيرة، وتتداخل البحور الكاملة بمجزوءاتها.

وينتج عن ذلك التداخل بين البحور موسيقى جديدة غير تلك التي اعتادتها الأُذن، وملّتها، لكثرة التكرار.

هذا التجديد الشعري في اليمن، الذي يسمى بالشعر الحميني، يشمل الموشحات والمبيتات والمسمطات.

وقد اشتهرت لشعر العامية خارج اليمن فنون عدّة؛ منها: المواليا، والزجل. والكان كان، والقوما والحماقي، وقد بلغت أشكال الزجل -بفنونه المختلفة- عند بعض الدارسين خمسين نوعاً، أما في اليمن فلا تزيد أشكال شعر العامية عن ثلاثة؛ هي: المبيت، والموشح، والقصيد، ويدخل ضمن هذه الأشكال بعض الفنون السابقة دون أن يُشار إليها بأسمائها المعروفة خارج اليمن.

-منتج يمني مثل البُن والعنب

سأل بعضهم الكاتب والأديب اللبناني مارون عبود:

"إذا كنت تغار على الفصحى كما تقول، لماذا هذا الاهتمام بالشعر اللبناني العامي "يقصدون الزجل"؟

وهنالك كان جوابه:

"إن في كل فترات تاريخ الأدب كان يظهر مثل هذا الشعر، ويُستحلى ويُستملح، كما أن بين الشعر الفصيح والزجل أقرب النسب… وإذا أعطينا الزجل حقه فلا يعني أننا نريد أن نجعل من اللهجة اللبنانية لغة قائمة برأسها. يكفينا من الزجل أن يكون لوناً محلياً نتباهى به كما نتباهى بالتفاح مثلاً، فهو ثمرة فكرية لذيذة جداً".

ذكر الدكتور عبدالعزيز المقالح هذه القصة في كتابه الذي حاولت عرضه في مقالتي هذه، وعلق عليها بقوله: "إن لديه نفس الشعور من شعر العامية في اليمن (الشعر الحميني)".

ونحن مع المقالح: نتباهى بلون شعري رائد ولد من لغة اليمن، وأسمته "الشعر الحميني اليمني"، نتباهى به منتج يمني غدا جزءاً من الهوية اليمنية، مثلما نتباهى بالعنب والبُن اليمني، وكل ما هو خلاق وجميل في تاريخ هذه البلاد.

مقالات

أبو الروتي ( 10)

في أول يومٍ أذهبُ فيه إلى المدرسة (المعهد العلمي الإسلامي).. وفيما كنتُ أعبرُ بجوار السوق المركزي، وانعطفُ يساراً باتجاه "مدرسة السّيْلة" الابتدائية، شاهدت خمسة أطفالٍ شياطين يخرجون من الشارع الموازي للسوق المركزي؛ أربعة منهم بنفس عمري، وخامسهم أكبر مني، ومن أصحابه الأربعة، وكانوا جميعهم يشترون الرّوتي من فُرن الحاج، ويرونني هناك، لكن كبيرهم كان أول من لفت انتباههم إلى وجودي، وأول من صاح قائلا، وهو يشير إليَّ:

نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) خاصة بنا. بمواصلة تصفحك لموقعنا فإنك توافق على استخدام ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) وعلى سياسة الخصوصية.