مقالات
فلسطين.. من التخلي العربي إلى مساندة إسرائيل!
تدير الحكومات الغربية بقيادة الولايات المتحدة حرباً عالمية كبرى على غزة عبر إسرائيل منذ قرابة العام.
بالقياس إلى حجم الدمار ومجازر العصابات الصهيونية، فإن الحرب العالمية الثانية التي خاضتها "الحضارة الغربية" بكل توحشها وفظاعاتها في أربعينات القرن الماضي تبدوهينة.
هي هينة بالنظر إلى المساحة التي دارت فيها الحرب حينها، مقارنة بحرب الإبادة الحالية التي تشنها إسرائيل باسم هذا العالم "المتحضر" في مساحة متناهية الصغر، أشبه ما تكون بالسجن، وتعد المساحة الأكثر اكتظاظاً بالبشر في هذا الكوكب.
في الخريطة تظهر غزة بحجم نملة غير مرئية، مجرد بقعة صغيرة على البحر، محاصرة ومعزولة، مقطوعة الصلة بالعالم، يطبق عليها الأقربون قبل الأعداء.
بالنظر إلى تاريخ الحروب تكاد تكون هذه الحرب على غزة هي الأندر في التاريخ، إذ يخوض مقاومون محدودو التسليح مواجهات مع واحد من أكثر الجيوش خبرة في العالم مسنوداً بأكبر القوى العسكرية هيمنة في التاريخ عُدة وعتاد.
وغزة إلى ذلك ليس لديها نصيراً ولا مدداً، باستثناء مناوشات محدودة من تشكيلات طائفية انتهازية لديها أهدافها الخاصة المنفصلة عن الأهداف الإستراتيجية للمعركة، كما أنه لا أحد يقلق فعلياً بشأن غزة، رغم كل الجرائم والأهوال، ويتفق العالم بأجمعه بصورة من الصور على إباحتها لكيان الشر الصهيوني.
إن حجم ما ألقته إسرائيل من القنابل الأمريكية الضخمة شديدة التدمير على غزة يوازي عشرة أضعاف ما ألقته أمريكا على دولة كبيرة كاليابان في الحرب العالمية الثانية بما في ذلك القنابل الذرية على هيروشيما وناجازاكي.
ثم إن آخر ما أنتجته الصناعات العسكرية للعالم "الحر" من القنابل الذكية، وتلك الخارقة للتحصينات والأكثر تدميراً وفتكاً بمختلف أشكال الحياة، كانت متاحة لإسرائيل، وبعضها جرى تجريبها لأول مرة في غزة.
لا شك أن العالم شاهد آثار تلك الأسلحة في الجثث الممزقة، الذائبة والمحروقة لأطفال ونساء غزة وسكانها المطاردين والمشردين بلا مأوى ولا ملاذ، في بث حي لحرب غير مسبوقة يشاهدها العالم على الهواء.
في هذه الحرب هرعت ألمانيا وبريطانيا وفرنسا إلى جانب إ‘سرائيل دون كلل وكأنها تخوض حربها "المقدسة".
أما أمريكا، فهي لا تتوقف عن اعتبار إسرائيل حاملة طائراتها المتقدمة في المنطقة، تجسيداً لمقولة الصهيوني بايدن: لو لم تكن إسرائيل موجودة لأخترعناها.
هذا النهج الغربي، يبدو مفهوماً بالنظر إلى الميراث الإستعماري لهذه القوى الكبرى التي لم تغير من تعاملها مع العالم باعتباره مكاناً للهيمنة ومطمعاً دائماً للتنافس واستلاب موارد الشعوب الضعيفة وإذلالها.
ما هو غير مفهوم أن تتحول هذه الحرب إلى أمر مألوف لا يستنفر وشائج العرب والمسلمين، وهي تجري في قلب جغرافيتهم، ولا تثير حتى مخاوفهم الأمنية الذاتية المتصلة بأمنهم القومي باعتبار الأمر بدهياً وألِف باء الأمن والسياسة.
كما لا تستنكفهم المخاطر التي تتهددهم في ظل تعبير إسرائيلي علني عن أطماع الكيان اللقيط في خرائط أربع دول عربية، لا يتردد نتنياهو عن استعراضها في منبر عالمي كالأمم المتحدة.
وعلى العكس، ففيما تمضي إسرائيل في خوض حرب تدمير غزة واجتثاثها من خريطة العمران بتدمير شامل غير مسبوق في التاريخ لمدينة وخوض سلسلة تشريد ومطاردة لمئات الآلالف من السكان لا تنتهي، تهرع الأنظمة العربية لمد يد المساعدة لتل أبيب!
هناك انظمة قدمت أشكالاً مختلفة من الدعم العلني والسري لكيان الاحتلال، وهناك أخرى لم توفر اللحظة القاسية والمرعبة للاحتفاء بالعلاقات، واحتضان جاليات صهيونية للرقص!
وهناك بعضها يلهث سراُ وعلناً بحثاً عن مزايا إبرام علاقات طبيعية مع كيان الاحتلال، وكأنها تكافئه على ما يفعله بفلسطين، وتحثه على المزيد!
حتى الخطاب الديني، الذي طالما كان لديه هامشاً للعمل في الإطار التعبوي للقضية الفلسطينية في جولات الصراع، تحول إلى أداة للأنظمة العربية المتصهينة لمهاجمة المقاومة الفلسطينية وجزء من جهد إسناد إسرائيل معنوياً في حملات موجهة ضد الحق الفلسطيني!
لكأنها نبوءة المفكر العربي الكبير الراحل عبدالوهاب المسيري تتحقق وقد توقع قبل عقود أن يأتي زمن اليهودي الوظيفي، وهو مسلم يؤدي الصلاة كما المسلمين، ويتحدث باسم الدين لكنه صهيوني أكثر من الصهاينة!
هو المفكر نفسه الذي كان يرى في زمن ما قبل مهرجانات التطبيع العلني أن إسرائيل ككيان استعماري عنصري، لا يستمد بقاءه من داخله، بل من الخارج وحدد ذلك في عنصرين: الدعم الأمريكي اللا محدود، والتخلي العربي اللامحدود.
لقد جسدت حرب غزة حقيقة أن إسرائيل مجرد كيان مصنوع هش، ويمكن أن ينهار من الداخل بوجود أي مقاومة شعبية تحظى بالقليل من الدعم من محيطها، وتستطيع أن تنجز التحرر والخلاص.
أما الحقيقة الأخرى والأهم فقد أثبتت الحرب أن إسرائيل لا يمكن أن تعيش من دون مساندة الأنظمة العربية المتصهينة.
بعبارة أخرى هذا الكيان المغروز كخنجر في قلب المنطقة العربية لا يمكن أن يصمد من خلال الدعم الغربي مهما كان غير محدود، لكن كلمة السر الأهم في طول عمر الدولة الصهيونية ليس في التخلي العربي عن فلسطين، بل في مساندة هذه الأنظمة العربية المتصهينة سراً وعلناً للكيان!