مقالات

فيصل علوي.. منظومة فرحٍ لا تنضب

13/10/2024, 08:46:29

فيصل علوي فنان غير قابل لأن تُمسِك به، وتختصره بمقالة. ست مرات أضعه في طاولة الكتابة، ثم أتراجع وأكتب عن فنان آخر مؤجلاً فيصل إلى لحظة أخرى، أستجمع نفسي إلى درجة أكون قادرا فيها على الإمساك به.

شاسعٌ ومهول، لكن هذه المحاولة السابعة، ولا بُد أن أكتب عنه، وإذا لم أفعل لن أتمكن بعدها من مقاربته.

شائع إلى حد الغموض. تتحمس لاكتشاف جوهرة مجهولة، أو لم يدرك أحدا قيمتها، لكن فيصل يعرفه الجميع، ويدركون مكانتهُ، ومع ذلك لا زال عميقاً وغائراً وعصياً على أن يُدرك كله.

ما تعرف حده النهائي تتجاوزهُ، لكن حد فيصل ما يزال بعيداً، وهذا ما يجعلك مقيماً عندهُ، مُقيماً عند ظاهرة غنائية فريدة من نوعها وشاسعة الأبعاد مثلها، وكان نموذجها الأمثل.

فنان لا ينضب، يصل إلى كل المستويات، ويمنح كل واحد ما يريد. مثل الماء، تستلقيه الأعالي في الجبال والأشجار، ويتدفق بمستوى الأرض، ويتسرب إلى أماكن قصية وهامشية لا يصل إليها أحد.

كلما تعمقت في جذور فيصل علوي كظاهرة غنائية، يزداد يقيني أن هذا المستوى من التميز المتفرد لا يمكن أن يُنْجز إلا من فنان استثنائي.

غناء بهذا الدفق المبهج لا يقوم به فنان عابر ذو شخصية اعتيادية متوائمة تنسج على منوال من سبقها.

هذا فنان ذو حواف حادة تقطع ما تلامسه من كلمات وألحان وتترك فيها بصمة خاصة، نغمة لم يعرفها حقل الفن الذي تتحرك فيه من قبل.

لا يمكن للتحليل العادي أن يخبرنا بكلمة واحدة عن فرادة فيصل علوي؛ ولماذا تبهجنا أغانيه وأوتاره بطريقة سحرية لم يسبقه فيها أحد. ولماذا وكيف يمكن لأغنية فيصلية أن تطلق فرحتنا من وسط ركام الوجع، وأن تبث فينا بهجة برية تحلق فوق شروط الحياة وكأنها انبثاق المخلوق الأول على وجه الأرض.

-صوت نادر لا شبيه له

يتميّز فيصل علوي بصوت غنائي نادر، كأنه منظومة كاملة من الموسيقى بحد ذاته، وبمعزل عن أوتار عوده، وكلمات أغانيه واللحن الذي ينسج نغماته على منواله.

صفاء صوته الرحب ونغمته الواسعة، وانطلاقته العذبة؛ يقول لك إن هذا الفنان احتكر الإيقاع الراقص؛ وكأنه خُلق ممتزجاً بكيمياء صوته، صوت قوي، بكامل صفائه، منتشي، وبعيد المدى، يصدح جذلاناً بكلمات الأغنية كأنها جزء من وجدانه ونغمة روحه.

إذا كان الأمير أحمد فضل القمندان قد أسس الغناء اللحجي؛ ورسم اتجاهه الحديث بشعره المتفرد، ورعايته الكريمة للفن والفنانين في حوطة لحج، والفنان فضل محمد اللحجي قد تولى بناء مداميكه، بموهبته وألحانه الفريدة، وتفوقه في العزف على كل الآلات الموسيقية، فإن الفنان فيصل علوي هو تجليه الواضح، وهويته المعبرة عنه بصوته وأدائه الفذ، وتألقه الذي لم يكن بإمكان الغناء اللحجي أن يصل إلى ما وصل إليه، وينتشر في عموم اليمن والجزيرة العربية بدونه.

من يستمع لأغاني فيصل علوي الراقصة، على سبيل المثال: يا ورد يا كاذي، أسيل الخدود، عاده صُغير يربونه، يا ذي تبون الحسيني، خلّي قد هجرني؛ يظن أن أغانيه الراقصة؛ الشرح وبقية الرقصات اللحجية، ميدانه الوحيد.

لكنك تكتشف تميّزه في الأغاني الطربية، وكأنه فنان الطرب الذي لا يشبهه أحد. يتجلى في ذروة أدائه في أغنيتين طربيتين، أغنية "يا ليلة النور"، وهي من ألحان فضل اللحجي، ترنم بها بصوت قوي عذب يتراءى لك كأنه صوت الكون الواسع، ونغمة الأرض:

يافلّ فاتِشْ شَذِي يا ريحة الكاذي

بعد الجفا رِيتَكْ زارت يوم تدعيني

ومن هذا النوع اللحجي الطربي أغنية "ساعة تلاقينا وحط يده على يدي.. فيساع تصافينا ولا عنده ولا عندي"

الغناء الطربي إلى جانب الغناء ذي الإيقاعات الراقصة السريعة، كلها تمثل إرث لحج وفلكلورها الذي لم يكن ليصل بكامل نغمته بدون صوت فيصل، وتفوقه في العزف والغناء.

أجاد جميع ألوان الغناء اليمني إلى جانب ريادته في الاغنية اللحجية والتجديد، الذي أحدثته فيها ألحان أستاذه ومعلمه فضل محمد اللحجي، لكن الاغنية اللحجية كانت جزءا من روحه لا فحسب مجال تميّزه وإبداعه وشهرته.

-جذور الأغنية الفيصلية في الرقصات اللحجية

الأغنية اللحجية الراقصة لا تقتصر على الشرح. لكن "الشرح" شاع كمصطلح واسم جامع للغناء اللحجي الراقص.

ربما نحتاج لإلقاء نظرة على جذور الغناء اللحجي كي ندرك سر هذه الروح الراقصة في أغاني فيصل علوي، وكيف كان صوته شرارة فجّرت إمكانيات غناء لحجي، لم يكن ليصل إلى أقصى مداه بدون صوت فيصل علوي وأدائه الرفيع والمتفرد.

ازدهر الغناء اللحجي استنادا إلى موروث لحج ورقصاتها وفلكلورها القديم، باعث النهضة اللحجية الأمير أحمد فضل القمندان نظم قصائده على أوزان رقصات لحج الشعبية المتنوعة، وفلكلورها القديم.

هو نظم القصائد، وفضل محمد اللحجي نقش ألحانها مستلهماً روح الرقصات، التي طورها واستند إليها في ألحانه، أما فيصل فبدونه لم تكن لتصل بكل هذا البهاء في عموم اليمن والجزيرة العربية.

كل رقصة من رقصات لحج تمتاز بلحنها وبشعرها وإيقاعاتها المميزة لها عن الرقصات الأخرى، وبطريقة أدائها كرقصة مصاحبه للأغنية.

رقصة الشرح، الأكثر انتشاراً، يرقصها الرجال والنساء معاً وهي رقصة سريعة الخطوات، ولها ألوان مختلفة باختلاف الألحان والأوزان الشعرية، إلا أن الإيقاع يظل واحدا.

ومن الأغاني المستلهمة من هذه الرقصة، يذكر الفنان طه فارع قصيدة القمندان "سامحني وانا با توب"، مع أنها أغنية تبدو أقرب إلى الطرب الذي تمثله رقصة الدحفة البطيئة:

قل لي ليش يا سيدي

طبعك ليش صبح مقلوب

قل لي شو جرى مني

سامحني وانا باتوب

النوع الثاني من الرقصات اللحجية هو رقصة الزفنة. ومن القصائد الغنائية، التي نُظمت على إيقاعاتها وأداها الفنان فيصل علوي قصيدة عبدالله هادي سبيت:

مابا انساك والله ما انساك

كيف انساك وانته معي دايم

النوع الثالث رقصة الحناء ونجيم الصباح، هذه الرقصة تتوج السمرة وتؤدى في نهايتها، وهي هنا تشبه الحضرة الصوفية، التي يقف الجميع في نهايتها، وينشدون فقرتها واقفين.

نجيم الصبح تؤدي في وقت متاخر من الليل. ينهض ما تبقى من السامرين ليقفوا في شكل دائري، وكل منهم يمسك من بجواره بكلتا يديه من خصره، ويتوسط هذه المجموعة المغني، والعازفون وامرأة تحمل البخور. هي أغنية شهيرة غناها فيصل، واشتهرت أيضاً بأداء فرقة الإنشاد في عدن:

يا علم حنا .. يا علم حنا

يا علم حنا .. يا علم حنا

ساعة الحنا تشفي المارود

شلها يالله يا كريم الجود

سعد يا مسعود فاح عرف العود

اسقنا الصهبا دمعة العنقود

تجلي الكربه تشفي المارود

جلها يا الله يا كريم الجود

إلى أن يقول:

نجيم الصباح آش جلسك بعد ما غبنا

نجيم الصباح سامر على العود والمغنى

رقصة الرزحة يؤديها صفان من الرجال والنساء. وهي رقصة الصراب في الحقل.

ومن الأغاني، التي نظمت على منوالها، يذكر الفنان طه فارع في كتابه "الأغنية اليمنية المعاصرة" أغنية يا بو زيد يا مسلي على خاطري، من كلمات القمندان وألحان فضل اللحجي وغناء فيصل علوي. واستلهمها الفنان أحمد فتحي في أغنيته الشهيرة بالعنوان نفسه مع إضافة مقاطع لحنية أخرى.

أغنية فيصل علوي الشهيرة "ليتني يا حبيبي بالتقي بك يا هلي في السمر ساعه هنيه لها شان"، نظمها القمندان ولحنها وطورها الفنان فضل اللحجي على وزن إيقاعات رقصة "الدحفة".

وعلى وزن زف لحجي قديم نظم القمندان اغنية "لما متى تبكي يا قلبي المجروح

هات الدواء يا عيني يا حياة الروح"، وهي من الأغاني الشهيرة للفنان فيصل علوي.

-تميّز بالغناء اللحجي وأجاد كل الألوان

كلما تأملت ثراء فن الغنائي اليمني وتنوعه وتعدد ألوانه، يتجلى معنى اليمن وأفقه المتسع في ذهني.

كل لون عالم قائم بذاته. هذا التنوع في الأغنية اللحجية ورقصاتها هو صورة للتنوع في الغناء اليمني وثرائه وتعدد ألوانه.

والملاحظ أن جُلَّ الأداءات في العصر الحديث تغرف من هذا المخزون الكبير، المتجسد في التراث الشعبي المتراكم عبر مئات السنين.

أتحدث عن الفنانين الكبار في الستين عاماً الماضية، وليس عن التقليد الذي برز في العقدين الأخيرين، مشوهاً كل ما يمسه ضجيجه، وزعيق طبوله.

كان فيصل عازفًا بارعًا على العود، وقد ساهمت قدرته الفائقة على العزف في جعله واحدًا من أشهر الفنانين في اليمن.

راجت الكثير من القصص عن فرادته كعازف، وعدد الأوتار التي أضافها إلى العود، بعضها حقيقي وبعضها ينسج من خيال شعبي شغُف بفيصل علوي ورفعه إلى مصاف الأسطورة. سمعته مرة في مقابلة قديمة مع قناة البحرين، سألته المذيعة: من هو أفضل عازف في اليمن؟

لفت نحوها كأنه يستنكر السؤال، لكنه ابتسم، وتذكر مثل يمني شهير قائلاً لها:

"إذا قدك عند النبي.. لا تقُل يا ابن علوان".

ولد فيصل علوي عام 1947، وبدأ الغناء عام 1958 أي في سن مبكرة، وأول أغنية له «يا طائر كف النياح»، في حين كانت أول أغانيه الخاصة "بسألك بالحب يا فاتن جميل"؛ من ألحان صالح ناصر كرد، وكلمات أحمد عبادي حسين، وسجلها في إذاعة عدن عام 1958م.

رغم أن كثيرا من أغانيه من أشعار فضل القمندان إلا أنه تعاون مع عدة شعراء غنائيين أهمهم؛ عبد الله هادي سبيت، صالح نصيب، و علي سالم الحجيري.

فضل محمد اللحجي هو أستاذه ومعلمه الأول، إذ التحق بفرقة ندوة الجنوب التي كان يقودها في الخمسينات، وتعلم على يديه العزف على العود والكمان.

وقد ورث عنه عوده وشغفه بالغناء وموهبته في اختيار الألحان، وتجديد الغناء اللحجي واليمني.

مقتل الفنان فضل اللحجي في فبراير 67 تركه وحيدا، فأسس فرقة موسيقية مع فضل ميزر ودفعته روح المبادرة في بداية السبعينات للسفر إلى دول الخليج، وهناك غنى وحلق عالياً وأدهش جمهوره الخليجي في حفلات أحياها في السعودية والكويت والبحرين وقطر، ولقي أصداء واسعة هناك وترك أثراً لا يُمحى في الذائقة الخليجية.

وربما لو قُدِر له البقاء هناك مثل الفنان أبوبكر سالم لتمكن من الذهاب إلى مدى أبعد من التميز والإضافات الإبداعية التي أضافها للغناء اليمني.

إذا سُألتُ عن أهم عشر أغاني له في اللون اللحجي لقلت: زمان والله زمان، سامحني وانا باتوب، أسيل الخدود، سلام مني عليكم يا حبايب، طبت يالمضنون، عاده صغير يربونه، ياورد ياكاذي، و يا شقي في يوم عيدك، يعيبو على الناس والعيب فيهم، غلط يا ناس تصحوني وانا نايم.

فيصل علوي، وإن كان قد تميز وانطبعت بصمته في الغناء اللحجي، لكنه مع ذلك خاض في كل ألوان الغناء اليمني وأبدع فيها.

في الغناء الصنعاني أدى الكثير من الأغاني بطريقته المتميزه وصوته القوي وعزفه الجميل والمتفرد: وامكحل عيوني بالسهر، المعنى يقول يا من سكن في فؤادي، وامغرد بوادي الدور، رضاك خير من الدنيا، غني علي نايف البواسق، صادت فؤادي ، الله يعلم أنني مستهام.

-ما يشبه الخاتمة

فيصل علوي منظومة من الموسيقى لا صوت فنان يعزف على العود.

صوته وعزفه المتفرد أشبه بآلة الزمن، بوابة للمشاعر المنسية، مرآة للروح. عندما يغني فصوته لا يُصغى إليه بالأذن فحسب، وإنما يتسرب إلى كل ذرة من كياني. أشعر كأنه يوقظ روح برية أولى للإنسان اليمني القديم من أعماق روحي، ويستدعي ذكريات مدفونة منذ آلاف السنين استيقظت فجأة في وجداني على وقع صوته ونغمات عوده الرنان.

مع أول نغمات عوده يأخذك بعيداً لكأنك لم تعد في الحاضر، كأنك تعيش نشوة فرحتك الأولى، وفرحة طفولة نقية تعود فجأة لتستولي على كل إحساسك. تتداخل كلمات أغانيه مع تاريخك الشخصي، كل كلمة خيط يعيد نسج لحظاتك الأولى بأوتار عود عابر للزمن.

في بعض الأحيان، يمكن لأغنية فيصل أن تقفز بك عبر الزمان والمكان. تعيدك إلى تلك السنوات القديمة، والنوافذ مغلقة، تجعلك تغني بملء رئتيك.

تستمع له فينابيع إحساس مفاجيء أنك في حفلة راقصة تلقائية، قلبك يخفق، تضيع في لحظة تشعر بها كأنها أبدية. قوة أغنيته لا تكمن في كلماتها ولحنها فحسب، ولكن في صوته الذي يضاعف قدرتها على إحياء هذه الشظايا الثمينة من أعماق الروح.

الأمر لا يتعلق بمواصفات معينة للأغنية واللحن والكلمات والصوت أو الإنتاج الفني الآلي الخالي من العيوب. إنها روح فيصل علوي ، طريقته التي تجعل قلبك يطير ، أداءه الذي ينتشلك من بين ركام إنشغالاتك وهمومك، ويبث الفرح في أعماقك، ويشعل روحك بنغمات غنائية لا تؤثر بك من بعيد، ولكنها تحركك من الداخل وتلامس روحك.

فيصل علوي هو التعبير الأمثل عما يمكن أن يفعله الغناء. هو الموسيقى المجسدة لحياة من يسمعه، أياً كان. لحظات إشراقه، وأجمل ذكرياته، وصوت أعماقه.

كلما أصغيت لصوت فيصل علوي ونغمات أوتاره وتحليقه العالي في الغناء، أشعر بإحساس مكثف أنني على قيد الحياة، حي ومتوهج بشكل كامل وعميق وجميل. أشعر بفرح لا حدود له. أشعر بنفس إحساس ذلك الذي ينتصر على الحياة في نهاية دورتها الزمنية ودهورها المتعاقبة.

مقالات

أبو الروتي(4)

(كنت كلما سمعت خطيب الجامع يتكلم عن بنات الحور تذكرتُ فاتن حمامة) عندما وصلت بيت جدي، علي إسماعيل، لم يكن جدي موجودا، وإنما كانت هناك جدتي آمنة، وقد استقبلتني بحرارة، وكانت ظريفة وخفيفة دم، حتى إنني أحببتها من طريقة استقبالها لي، ومن طريقتها في الحديث.

مقالات

عن شعر يمني جدد الأدب العربي

كان شعر العامية اليمنية في زمن الدولة الرسولية والطاهرية، وتحديداً الشعر الحميني الذي اكتمل كلَونٍ جديد، ثورة تجديدية في الأدب العربي، في رأي الدكتور عبدالعزيز المقالح.

نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) خاصة بنا. بمواصلة تصفحك لموقعنا فإنك توافق على استخدام ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) وعلى سياسة الخصوصية.