مقالات

قوة الذات بين زيف "التنمية البشرية" ووهم "صانع المحتوى!"

17/07/2024, 07:08:21

هذا المقال لا يهتم ب"المساعدة الذاتية"، التي تروّج لها كُتب التنمية البشرية ومدربوها المتكاثرون.

هي حالة أقرب إلى "البرامج الربحية التجارية"، ولا علاقة لها ب "قوة الذات" كفكرة فلسفية، وحقيقة فطرية، وعلمية في الإنسان، الكائن الأرقى والأكثر تعقيداً في كوكب الأرض.

ما الفرق بين من يتحدث عن "قوة الذات" كفكرة ترد في الأدب والشعر والفلسفة وفروع المعرفة المختلفة، ومن يطرقها بأسلوب ترويجي "كتب التنمية البشرية ومدربيها، وما يتصل بها" كأنه يسوّق سلعة؟

إذا جاز لي التشبيه، سوف أقول إنه الفارق نفسه بين علم الفلك، والمشعوذين الذين يتعيشون على هوامشه القصية بالتنجيم البدائي.

لنتأمل هذا المثال: كثيرون كانوا يعتقدون أن الصوفية تجسدها ظاهرة المجاذيب، الذين كانوا يمرون على القرى في رمضان، ويقدمون عروضاً من قبيل طعن بطونهم، أو وضع الجنبية طرف العين أثناء الرقص وحركات أخرى. الحقيقة هي أنهم كانوا ظاهرة نشأت على أطراف الصوفية، حول مزار ابن علوان في "يَفْرُس" ومزارات أخرى، بينما الصوفية تتضمن أشعارًا وتأملات فلسفية، وأفكارا وكتابات رفيعة، وتجارب تأملية نادرة لا تأبه للإبهار أو الظهور المبهر للتعيش من اختزال الظاهرة في حركات بهلوانية تجذب الجمهور والمشاهدين.

ظاهرة "المجاذيب" لا تمثل جوهر هذه الفلسفة، وإنما نشأت على هوامشها للتكسب، ولم تأخذ منها سوى القشور.

رغم الفارق بين ظاهرة "المجاذيب" كظاهرة أصيلة، رغم سطحيتها، وظاهرة التسويق التجاري ل"قوة الذات" عبر كتب التنمية البشرية السطحية، والتبسيط الترويجي التجاري الذي يحول فكرة "التساؤل الواعي حول الذات وقوتها"، إلى كاتلوج من النصائح الآلية، أشبه بتعليمات الذهنية السلفية التي تخبرك ماذا ينبغي عليك أن تقول في كل لحظة من يومك، وكأنك روبوت آلي.

لنأخذ مثلا "تعليم اللغة الإنجليزية"، الفكرة لها مناهج ومعاهد متخصصة، وبرامج لا حصر لها، ويأتي أحدهم ليقول لك: "كيف تتعلم الإنجليزية في خمس دقائق!".

لا أحد يقول أبدًا من فلاسفة الحياة وكتابها وشعرائها: "هذه قاعدة ذهبية، يجب أن تصدقها".

الشاعر، الفيلسوف، الأديب، يحفِّز قارئه على التساؤل والتفكير النقدي، واكتشاف استقلاليته وقوة ذاته، ولا يقدم تعليمات ونصائح لمتلقٍ سلبي ينتظر من يرشده ويوجهه.

- الضلال المشترك بين ظاهرتين

"كلام تنمية بشرية!"
يطلق أحدهم جملته هذه في منصة افتراضية، بتنطع تهكمي أجوف، يلصقها بكل قول فارق، وكأنه يطلق عصى موسى لتتلقف كل ما رجمه سحرة الفلسفة والشعر والرواية والعلوم الحديثة، والكتابات والمؤلفات المتراكمة عبر التاريخ، التي أكدت على الذات كنبع قوة بإمكان من يحافظ عليه، ويتصل به أن يعادل في قوته عظمة الكون بكلها.

في تاريخ الشعوب، العلوم، المعارف، الثورات، الأدب والفلسفة والمعرفة، كان هناك أفراد غيّروا وِجهات مجتمعات وعلوم، وأحيانا غيَّروا وِجهة التاريخ ومساره.

القوة اللا محدودة للذات كانت وما تزال مجالاً لأفكار وفلسفات لا حصر لها، وسِمة لفلاسفة وفلسفات وقصائد وشعراء وروائيين ومتصوفين وكتاب بلا عدد، لكن مُدربوا التنمية البشرية ومؤلفاتها المتكاثرة يقدموها بطريقة تسويق تجاري لا يعبِّر عن حقيقتها، ولا علاقة له بها. يتكرر هذا التسويق الزائف لأفكار ونظريات وفلسفات وطرائق عبر التاريخ.

ما يطلقون عليه "صانع المحتوى" في المنصات الرقمية، هو متلقٍ تتلاعب به ماكينات التضليل. فرد خارج من ذاته، يدّعي العلم بكل شيء، غير أنه صدى معكوس يردد ما يمر في ذهنه من سيل معلومات يومية لا ينقطع، ولا يترك له فرصة لالتقاط أنفاسه.

يسخر "المفسبك" من كل رأي يقول له إن "الذات" هي نبع القوة الأهم عبر التاريخ، وأن كل ما أنجزه البشر من تقدم علمي ومادي ومعرفي كان "الفرد" المبدع "نواته" الخلاقة.

سيل من آراء يومية متقلبة يربط بينها "النفور" من كل رأي يقول إن "الإنسان" هو صانع التقدم وهدفه.
وراء ذلك فكرة تضليلية تهمّش الإنسان، وبالمقابل تمجِّد نموذجا ماديا آليا للتقدم وللحياة، مع أنه ليس سوى أثر لإبداع الإنسان وإيمانه بذاته كصانع للحضارة والتاريخ.

في زمن الرقميات والمجتمع الاستهلاكي يتم إفراغ الإنسان وتحويله إلى "مستهلك" للمنتجات المادية والأفكار التضليلية، وما يدافع عنه بأنه "رأيه" ليس سوى انطباعات متغيرة تتركها في ذهنه تيارات القصف المعلوماتي اليومي.

- ترندات افتراضية، وماضويات واقعية!

يستهلك "صانع المحتوى!" ترندات حول كل ما هو لامع ومطروح أمامه من موضوعات وما يتم ترويجه، بينما تنبعث من حوله ماضويات لم يكن يخطر على البال أنها ستعود بكامل عدتها العتيقة وعتادها المتهالك من تصورات وأفكار.

في كتابه "تسلية أنفسنا حتى الموت"، يرى نيل بوستمان أن لكل شخص الحق في أن يكون له رأي، ومن المفيد بالتأكيد أن يكون هناك عدد قليل ومتنوّع عندما يعد استطلاعا للرأي. ولكنه يضيف أن هذه آراء بترتيب مختلف تمامًا عن آراء القرن الثامن عشر، أو التاسع عشر. ربما يكون من الأدق تسميتها بالعواطف بدلاً من الآراء، مما سيفسر حقيقة أنها تتغيّر من أسبوع إلى أسبوع، كما يخبرنا مستطلعو الرأي".

يذهب بوستمان بعيدا ليقارنها بآراء القرن الثامن عشر والتاسع عشر. الأقرب أن نقارنها، في حالتنا مثلاً، بآراء الثلاثينات والأربعينات المحدودة، ولكن المؤثرة التي صنعت اتجاهاً لليمن. كذلك آراء السبعينات والثمانينات، حيث كانت الكلمة والرأي جزءاً من تيارات تمتلك تصورات متماسكة للعالم والواقع من حولها.

الآراء اليوم افتراضية متقلبة، يتحكم بها "الترند"، وأشبه بلُهاث يومي تنقطع خلاله أنفاس "صانع المحتوى الوهمي"، وهو يبحث كل يوم عن "الاعتراف!" بمقياس عدد الإعجابات!

لا يترسب شيء من اللهث اليومي في الشاشات، لا في الذات ولا في الواقع الموضوعي. نتيجة واحدة يحققها بتواتر منتظم: استنزاف الصانع المتوهم للمحتوى، وإنهاك قواه، وتركه مشوشاً بلا حراك ولا رؤية واضحة.

في نهاية المطاف، لا التمظهرات السطحية، التي تنشأ على أطراف ظاهرة ما، تمثيل حصري ل"حقيقتها"، ولا انفعالات "صانع المحتوى الرقمي" قادرة على تقويض رؤى وفلسفات، تقف تهكماته عند هوامش سطحية تتشبه بها.

- التضليل في الشاشات والمنصات

ما يحدث هنا يفسره بوستمان بأن التلفزيون / منصات التواصل تغيّر معنى "أن يكون الإنسان على علم" من خلال خلق نوع من المعلومات، التي قد تسمى بشكل صحيح "معلومات مضللة".

المعلومات المضللة لا تعني معلومات خاطئة؛ إنها تعني معلومات مضللة - معلومات خاطئة أو غير ذات صلة أو مجزأة أو سطحية - معلومات تخلق وهمًا بمعرفة شيء ما ولكنها في الواقع تقود المرء بعيدا عن المعرفة.

قول كهذا لا يقصد به بوستمان التلميح ضمناً إلى أن الأخبار التلفزيونية ومحتوى منصات التواصل تهدف عمداً إلى حرمان الناس من فهم متماسك وسياقي لعالمهم.
ما يعنيه هو: "عندما يتم تعبئة الأخبار كتسلية، فهذه هي النتيجة الحتمية  وفي القول إن البرنامج الإخباري التلفزيوني يسلّي، ولكنه لا يُبلغ، شيء أكثر خطورة من أننا محرومون من المعلومات الحقيقية. إننا نفقد إحساسنا بما يعنيه أن نكون على دراية جيّدة. التجاهل دائما قابل للتصحيح. ولكن ماذا نفعل إذا اتخذنا الجهل معرفة؟".

عرفت مجتمعاتنا شاشات التواصل في زمن فقدت فيه القدرة على التواصل في الواقع. في حال كهذا، الذي نعيشه في اليمن، يعايش الناس، منذ عشر سنوات، الانهيار المستمر لكل شيء في حياتهم، وبالتوازي معه تتسع الإقامة في الشاشات، وكأنها ملاذ وهمي يعوِّض الناس عن كل ما يخسرونه في الواقع.

شاشات الزمن الرقمي ومنصاتها أصبحت ساحة للتضليل، والحملات الدعائية، والإشاعات والأكاذيب والمبالغات. تضليل الناس لا يحدث فقط بالكذب حول عناوين معيّنة. التضليل الأهم هو تهميش المهم، والاهتمام بالحدث التافه أو اختلاقه وتصعيده إلى الواجهة.

أسلوب آخر هو إطلاق نقاشات بلهاء تستنزف المتفرجين وتجذبهم لبلاهات يحددها آخرون بطريقة مدروسة وقصدية. يساعد في هذا النوع من التضليل طبيعة وسائل التواصل، كمنصات مفتوحة لسيل من الكلام، وسيول من المشاركين.

الكلام الذي تطحنه يوميا مطاحن التواصل الدوَّارة ليس بالضرورة ما تحدده حياة الناس وقضاياهم الحقيقية. هذا السيل الدافق تؤثر فيه كثيراً كائنات ذُبابية، بلهاء أحيانا، وتحركها جهات منظمة في أحياناً أخرى.

في تاريخ البشرية كله لم يكن مجال النقاش العام مفتوحاً على مصراعية لماكينات التضليل والمعلومات المزيفة والنقاشات الاستنزافية، كما هو في وقتنا الحاضر.

صحيح أن النخب المحترفة للتضليل كانت موجودة في كل مراحل التاريخ، لكن مساحة الحركة أمامها كانت ضيقة، وتحتاج إلى جهود وبناءات معقّدة من الاختراقات والأساليب الذكية.

لكن الوضع اختلف في زمن الفضاء المفتوح على الحشود الذبابية، والكتائب الإلكترونية، والمراكز التضليلية المحلية والدولية، وفوقها الهوام التائه من كائنات ضالة تلهث في كل اتجاه ولديها استعداد دائم للصراخ في كل وجهة تأخذها الأمواج باتجاهها، استُهلِكَتْ أشياء كثيرة في هذا التسارع اللاهث للحياة الذي فعلته التكنولوجيا.

من يعلَق باللهث اليومي لسيل المعلومات المضللة بتنويعاتها المعقدة سيفاجأ في لحظة ما وقد استهلك نفسه عن آخرها، فيما كان يتوهم أنه على "تواصل"، وينتج أشياء جيدة وجديدة ومُبهرة في سباقات الكتابة اليومية على الشاشات المزدحمة بجموع لا تُعد ولا تُحصى.

- ما يُشبه الخاتمة: وقت مستقطع

ما بين كتالوجات "التنمية البشرية" وتضليلات "صُناع المحتوى" يحتاج إنسان الزمن الرقمي إلى وقت مستقطع يقضيه مع "ذاته": الإفلات من تعليمات مدرِّبي التنمية وثغاءاتهم، ومن تضليلات صُناع المحتوى ولُهاثهم المُضني.

أن يعيش الحياة ببساطة، كل الكلام قد قيل أن يأخذ إجازة، بين الحين والآخر، من وصفة "النجاح" ومن إغراء أن يكون «مُبهِراً» و«مؤثراً». وقت مستقطع كل يوم في غرفة مظلمة، يقضيه بصمت وبلا حراك أو تفكير، وبلا إبهار أو تأثير. سمها ما شئت: تأمل، يوجا، صلاة صامتة، أو أي عنوان، لا يهم.

تنظيف العقل من أكوام المخلفات العالقة يتطلب هذه المسافة من سلاسل الكلام اليومي السيالة. لحظة صمت. مستسلما لموجة الفراغ بلا مقاومة أو تذاكي العقل الواعي.

تستعيد قدرتك على التفكير بهذا الابتعاد المؤقت. تصقل حواسك بإعطائها وقتا مستقطعا من اشتباكات المسافة صفر في الشاشات الافتراضية. تجد الحل بالتدرّب على إشاحة النظر، لا بتركيز تُبطِل شحنته الكهربية فعالية الدماغ.

استرخي، اطفئ أنوار عقلك لتتمكن بطاريته من استعادة طاقتها، وكل الجماهير والشاشات والمتابعين سوف ينتظرون «تأثيرك وإبهارك» خارج باب الوعي المغلق للترميم.

مقالات

أبو الروتي (3)

(لحظة انطلقت بنا السيارة شعرت بأنّي كبرتُ، ولم أعد طفلا) فيما رحت أتقدّم باتجاه بيت جدي علي إسماعيل، تذكّرت كلام جدتي، وهي تودّعني عند مشارف القرية، وتقول لي:

مقالات

المساندة لكيان الاحتلال والأكفان لفلسطين!

منذ البدء؛ اختارت الكثير من الأنظمة العربية توزيع الأكفان في غزة. كان ذلك يختصر كل شيء: نتنياهو مطلق اليد، يتولى ذبح الفلسطينيين، بينما ستحرص هذه الأنظمة على أن يكون تكفين الضحايا عربياً خالصاً!

نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) خاصة بنا. بمواصلة تصفحك لموقعنا فإنك توافق على استخدام ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) وعلى سياسة الخصوصية.